تظهر نظرة على علاقات مصر مع الخارج أن الاقتصاد المصري مرتبط بالاقتصاديات الغربية أكثر من أية اقتصاديات أخرى، وعليه فإن المخاوف من تأثيرات سلبية للتقارب المصري الروسي على علاقات مصر الاقتصادية مع الغرب تبدو في غير محلها.
يبدو التاريخ وكأنه يكرر نفسه ولو بشكل جزئي على صعيد العلاقات المصرية الروسية. عندما رفض الغرب في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تمويل بناء السد العالي، توجه الأخير إلى الاتحاد السوفيتي لبناء السد الذي كان له الفضل الأكبر في تعميم الكهرباء على مختلف مناطق مصر وما يزال حتى اليوم أحد أهم مصادر الطاقة في بلاد النيل. واليوم وبعد أكثر من أربعة عقود على بنائه وتشغيله تتوجه مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي لتعزيز التعاون الاقتصادي، لاسيما في قطاع الطاقة المصري الذي يعاني من أزمات متزايدة خلال السنوات القليلة الماضية. وهكذا فإن مشاريع الطاقة وضعت على رأس أجندة المباحثات والاتفاقات الثنائية التي تتزايد بوتيرة أسرع منذ وصول الرئيس السيسي إلى سدة الحكم. وعلى ضوء ذلك تم خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمصر في فبراير/ شباط 2015 التوقيع على مذكرة تفاهم لإقامة أول محطة نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية في مصر. وقبل ذلك اتفاق الجانبان على توريد الغاز الروسي المسال إلى مصر لسد جزء هام من احتياجاتها خلال السنوات الخمس القادمة. وتعتمد مصر بشكل كثيف على الغاز لتشغيل محطات الكهرباء التي يعاني عدد منها نقصا في الوقود بشكل يعطّل جزءا من قدرتها الإنتاجية. وهو الأمر الذي يؤدي بدوره إلى توقيف جزئي للكثير من المصانع والمؤسسات ويحرم الاقتصاد المصري من منتجات وموارد هامة.
غير أن العلاقات الاقتصادية المصرية الروسية تتجاوز الاتفاقيات لإقامة مشاريع جديدة إلى قطاعات حيوية في المجالات الصناعية والزراعية والسياحية وغيرها. ففي المجال الصناعي هناك عشرات المؤسسات الصناعية والخدمية المصرية التي تم إنجازها في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر بمساعدة الاتحاد السوفيتي سابقا، ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، مصانع الحديد والصلب في حلوان ومجمع الألمونيوم في نجع حمادي ومصانع النصر للسيارات ومحطات لتوليد الطاقة ومد شبكات الكهرباء في مناطق مختلفة. ونظرا لقدم هذه المؤسسات هناك توجه مصري يقوده السيسي، الذي يرى مراقبون بأنه يشبه عبد الناصر في توجهه للاعتماد على روسيا في تحديث هذه المؤسسات بعد مرور عقود على إنشائها وتشغيلها. على صعيد آخر تزداد الصادرات الزراعية المصرية إلى روسيا بشكل سريع بعد قرار روسيا بالتوقف عن استيراد الخضار والفواكه من الاتحاد الأوروبي ردا على العقوبات الغربية ضدها بسبب الأزمة الأوكرانية.
من جانبها تنمو الصادرات الروسية إلى مصر، لاسيما من القمح والأخشاب وتجهيزات مشاريع السياحة والطاقة والبنية والتحتية. وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن قيمة التبادل التجاري بين الطرفين زادت بنسبة 50 بالمائة خلال العام الماضي 2014 مقارنة بعام 2013 لتصل إلى 4.5 مليار دولار غالبيتها صادرات روسية إلى مصر. وفي هذا الإطار أضحت مصر أكبر مستوردي القمح الروسي الذي يغطي حاليا 40 بالمائة من احتياجاتها. وإضافة إلى الصناعة والزراعة فإن مستثمرون من روسيا يساهمون في العديد من المشاريع السياحية المصرية. ويشكل السياح من روسيا النسبة الأكبر بين السياح الأجانب. ففي عام 2010 على سبيل المثال حضر إلى مصر 3 ملايين سائح من روسيا. وبغض النظر عن التراجع الكبير للسياحة الأجنبية بعد ثورة يناير 2011، فإن السياح الروس ما يزالون في موقع الصدارة بين السياح الأجانب.
علاقات مصر مع الغرب هي الطاغية
رغم التطور السريع للعلاقات الاقتصادية بين مصر وروسيا، فإن مستوى هذه العلاقات ما يزال متواضعا مقارنة بعلاقات مصر مع الاتحاد الأوروبي. ففي عام 2013 على سبيل المثال بلغ حجم التجاري بين الاتحاد ومصر حوالي 22.8 مليار يورو مقابل حوالي 2.5 مليار يورو للتبادل التجاري الروسي المصري. ويشكل التبادل التجاري المصري مع دول الاتحاد حوالي 25 بالمائة من مجمل التبادل مع الخارج. وفيما يتعلق بعلاقات ألمانيا مع مصر بلغت قيمة التبادل بين الطرفين حوالي 4 مليارات يورو في عام 2013. وفي الوقت الذي تشكل فيه الزراعة والسياحة ومستلزمات البنية التحتية محور العلاقات المصرية الروسية، فإن علاقات مصر مع دول الاتحاد الأوروبي تتجاوز ذلك إلى مختلف قطاعات الصناعات التحويلية والاستهلاكية والكيميائية والإلكترونية ووسائل النقل والآلات والأجهزة والمعدات ذات التقنية المتوسطة والعالية على اختلافها. وبدورها تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من أكبر الشركاء لمصر في مجالات عدة. ويصل معدل حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين إلى حوالي 6.5 مليار دولار. ويتنوع التبادل التجاري بين الطرفين ليشمل الكيماويات والملابس والمفروشات والأغذية ومواد البناء والمكائن والمعدات والآلات ومكونات منشآت الطاقة والبنية التحتية.
تعزيز التعاون يسد بعض الثغرات
الصادرات الروسية إلى مصر تتجاوز الأخشاب إلى الحبوب والمعدات المختلفة
مقارنة بعلاقات مصر السياسية والاقتصادية المتشعبة والشاملة مع الغرب، تعتبر علاقاتها مع روسيا على الصعيدين السياسي والاقتصادي محدودة ومتواضعة. ونظرا للارتباط التاريخي والبنيوي والعميق للاقتصاد المصري بالاقتصاديات الغربية أكثر من أية اقتصاديات أخرى فإن علاقات مصر الاقتصادية مع الغرب ستبقى الأهم على الصعيد الدولي. غير أن التقارب الحالي بين روسيا ومصر يأتي في وقت يحتاج فيه كلاهما لتنويع علاقاته الدولية في المجالين السياسي والاقتصادي على ضوء برود العلاقات المصرية الغربية بعد وصول السيسي إلى سدة الحكم وفرض عقوبات غربية على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية. وفي المجال الاقتصادي تحتاج روسيا بشكل متزايد للمنتجات الزراعية المصرية من الخضار والفواكه إضافة إلى منتجات الصناعة التحويلية الاستهلاكية. أما مصر فهي بحاجة للقمح الروسي ومصادر الطاقة الروسية ومنتجات أخرى. غير أن مشكلة الروس والمصريين تكمن في حاجتهم إلى رؤوس الأموال اللازمة لتنفيذ غالبية مشاريع التعاون الكبيرة المطروحة على بساط البحث. فالروس يعانون حاليا من تراجع أسعار النفط ومن العقوبات الغربية، أما مصر فمرتهنة حاليا وإلى حد كبير بالدعم المالي الخليجي السخي من أموال البترودولار التي تتقلص بفعل تراجع أسعار النفط الخام. ومن هنا فإن مراقبين ينظرون إلى التقارب المصري الروسي على أنه رمزي بالدرجة الأولى، لأن تعزيز التعاون سيرتبط بمدى توفير رؤوس الأموال اللازمة للتمويل. غير أنه ورغم المعوقات الكثيرة، فإن لدى مصر وروسيا من الإمكانيات الذاتية ما يساعد على تعزيز التعاون الاقتصادي بينهما وسد ثغرات عديدة يعاني منها اقتصاد كلا البلدين.