تتأخر حاليا أفضل الساعات وأكثرها دقة ثانية واحدة كل 300 مليون سنة. والاختلافات الضئيلة جداً في توقيتها تغير العالم الذي نعيش فيه. الصحفي في بي بي سي ديفيد روبسن يبحث في هذا الأمر.
الوقت من ذهب، وكان ذلك المثل أكثر وضوحا في 3 يونيو/ حزيران عام 2013، في الساعة العاشرة إلا 15 جزءا من الألف من الثانية تماما، بحسب التوقيت الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية.
فبسبب خلل ما في دقة الساعة، نشرت وكالة رويترز للأنباء من دون قصد بيانات تداول تجارية قبل أوانها بذلك الجزء الضئيل من الثانية.
وكانت النتيجة هي حصول عمليات تجارية بقيمة 28 مليون دولار أمريكي، حيث بدأت الأجهزة الآلية الخاصة بالمعاملات التجارية في عملية التداول قبل أن تتاح الفرصة للآخرين لكي يتحققوا من الأمر.
لقد وصل التقدم التقني الآن إلى مستوى يمكن فيه حتى للاختلافات الضئيلة جداً أن تتسبب في وقوع خسائر باهضة الثمن، مما يدفعنا صوب عهد جديد من ضرورة ضبط الوقت بدقة كبيرة.
ويمكن لأدقّ الساعات أن تضبط الوقت لـ300 مليون سنة دون أن تخطئ ولو لثانية واحدة – وليست هذه بأي حال من الأحوال الحدود النهائية.
فيمكن لمثل هذه الساعات أن تؤثر على كل شيء؛ بداية من الأسواق المالية وإلى خاصية النظام العالمي لتحديد المواقع (جي بي إس) الموجود في سيارتك. كما أنها ربما تتيح لنا اختبار المادة التي يتكون منها الكون نفسه.
كانت التحسينات التي تجرى على ضبط الوقت في صلب التقدم الاجتماعي دوماً، وذلك منذ أن توقفنا عن قياس مرور الزمن اعتماداً على حركة الشمس.
على سبيل المثال، أحدث اختراع الساعة الميكانيكية ثورة في مجال ارتياد البحار. فقد أتاحت هذه الساعات للبحارة أن يستدلوا على خطوط الطول، وبالتالي وفرت المحرّك اللازم لعصر الاكتشافات والاستعمار. كما أنها دعمت تقدم علم الفلك، حيث أصبح باستطاعة مراقبي النجوم أن يقيسوا مسار الأجرام السماوية بدقة متناهية.
التردد المضبوط
لكن رغم ذلك، حتى أفضل الساعات الميكانيكية لم يكن لها أن تناسب معايير أيامنا هذه. فعلى سبيل المثال، تتأخر ساعة جدك بنحو 15 ثانية تقريباً كل يوم– أي ما يعادل دهراً إذا ما قورن ذلك بالدقة التي حققناها بما لدينا من معايير ذهبية حاليا، وهي الساعات النووية.
فقد اختُرعت هذه الساعات قبل 60 عاماً، وهي تعمل عن طريق جعل كرة من ذرات السيزيوم تسبح في موجات تعرف بالموجات الصُغريّة (أو أشعة المايكروويف). يتم ضبط هذه الموجات الصُغريّة بشكل يسمح بامتصاصها تماماً من قبل ذرات السيزيوم، ثما يعاد بثّ تلك الموجات من قبل هذه الذرات.
وبحسب هذه النظرية، يحصل ذلك عندما يصل تردد الموجات بالضبط إلى عدد محدد بدقة من الذبذبات في الثانية الواحدة. ولذلك، وبقياس تلك الذبذبات، فإننا نحصل على حركة واحدة لمؤشر الثواني مضبوطة بدقة متناهية، وتستعمل لقياس مرور الزمن؛ وذلك بنفس الطريقة التي يعمل بها رقّاص الساعة الميكانيكية المتأرجح بشكل منتظم.
اليوم، توجد إحدى أكثر الساعات النووية دقة في “المختبر الفيزيائي الوطني” في تيدّينغتن بانجلترا. إنها تتأخر لثانية واحدة كل 138 مليون سنة. لكن تفوقت عليها ساعة أخرى في العام الماضي، لتجعلها في المرتبة الثانية، وهي الساعة التي توجد الآن في “المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا” في بولدر، بولاية كولورادو الأمريكية؛ إذ تتأخر هذه الساعة لثانية واحدة فقط كل 300 مليون سنة.
كان السرّ يكمن في تبريد تلك الساعة إلى درجة النيتروجين السائل، إذ يقلل ذلك من الأخطاء الصغيرة التي يمكن أن تحدث، كما يقول ستيفن جيفيرتس، من المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا. إلا أن هذه الساعة ليست من النوع الذي يمكنك تعليقه على أحد جدران منزلك؛ فهي بحجم غرفة تقريباً.
وفي الحقيقة، تعمل هذه الآلة نفسها بدون واجهة مثل بقية الساعات: فهي تُستعمل عوضاً عن ذلك لقياس أخطاء الساعات الذرية الأخرى، ولكي يتمكن العلماء من وضع معايير أكثر دقة لتلك الساعات.
تشكّل مجموعة من هذه الساعات النووية شبكة يمكنها، مجتمعة، تحديد الوقت الرسمي في جميع أنحاء العالم. من المؤكد أننا نستفيد من تلك الشبكة حتى بدون أن ندرك ذلك. وتساعد الساعات النووية في قياس ترددات موجات الراديو التي تستعملها شبكات التلفزيون، على سبيل المثال.
وفي هذا الوقت، يعمل ما يعرف بنظام “التموضع العالمي” (جي بي إس) عن طريق قياس التأخر الطفيف للإشارات المرسلة من أقمار صناعية متعددة؛ وعن طريق قياس تلك التأخيرات المتتالية، يحسب النظام المسافة والموقع على الخارطة. لم يكن كل ذلك ممكناً لولا الساعة النووية التي تقيس أقل الفروقات الزمنية الممكنة.
ولا تكمن المشكلة غالبا في ضبط الوقت فقط، بل في تقاسم المعلومات أيضا– كما بيّنت شاشة رويترز للأنباء في المثال السابق.
ويشير ليون لوبو، من المختبر الفيزيائي الوطني في بريطانيا، إلى أن معظم اقتصاديات زمننا الحالي تقودها “مداولات عالية التردد” – وذلك باستخدام أنظمة تلقائية تُجري عمليات التداول في أجزاء من الثانية. المشكلة هي أن توقيت ساعات كل مؤسسة يختلف قليلاً عن غيره.
ويقول لوبو: “عندما تصل إلى مستوى يحتسب فيه الوقت بأجزاء من الثانية، فلن تجد مؤسستين بنفس دقة التوقيت. إذا كانت ساعة المتلقي مقتدمة على غيرها، ستبدو البيانات وكأنها وصلت قبل أن تغادر المصدر الذي خرجت منه.” ويستطيع المتداولون عندها أن يستغلوا تلك الفروقات الزمنية لصالحهم ليجنوا الأرباح.
شراء الوقت
مع أنه يمكن لإشارات الأقمار الصناعية، المستعملة في نظام الجي بي إس، أن تساوي بين تلك الفروقات الزمنية، إلا أنها عرضة للقرصنة أيضا.
ويقول لوبو: “بإمكانك أن تشتري أجهزة التشويش على إشارات نظام الجي بي إس. ويمكن لهذه الأجهزة– بسعر 20 جنيه استرليني للجهاز- أن تخترق الحظر الذي تفرضه المدن (على بعض الشوارع).”
أحياناً، لا يكون التهديد مقصوداً؛ ربما يستعملها سائقو تسليم البضائع لإخفاء طرقهم الخاصة الملتوية عن مديريهم، على سبيل المثال.
لوضع حلٍّ لهذه المشكلة، يوفر “المختبر الفيزيائي الوطني” شبكة أسلاك تمتد تحت الأرض تربط كل مؤسسة وفروعها بساعتها النووية – أي أن كل مكتب من مكاتبها سيستخدم نفس مصدر قياس الزمن لضبط الوقت. ويتم تزويد هذه الخدمة، حسب قول لوبو، في “شبكة مظلمة” – أي أنه لا يمكن نقل إشارات أخرى عبر تلك الأسلاك حتى لا تخترق.
وبهذه الطريقة، يصبح تزويد خدمة “الوقت” كأية خدمة عامة أخرى– مثل الكهرباء، والإنترنت- والتي ستحتاج إلى طلب للتزود بها. ويشرح لوبو هذه الخدمة بالقول: “فجأة، أصبح لدى المستهلك شبكته الخاصة به، فتصله خدمة الكهرباء، وخدمة الوقت عبر جدران مسكنه– وكل ما عليه هو استعمال هذه الخدمات.”
خلال عقد من الزمن، ربما ستبدو أفضل ساعاتنا النووية اليوم وكأن الزمن قد عفى عليها، كما حدث لساعات أجدادنا القديمة. فبدلاً من مادة السيزيوم، يتجه العلماء الآن إلى مواد أخرى مثل مادة السترونتيوم التي يمكن إثارتها بالضوء المرئي. حتى أنهم وجدوا ذلك أكثر دقة.
ويشير لوبو إلى الحساسية العالية لهذه الساعات لدرجة أنها ستُمتحن بمعادلات الفيزياء المذهلة التي وضعها ووصفها العالم ألبرت آينشتاين في “نظرية النسبية”. تكهّن آينشتاين بأن قوة الجاذبية سيمكنها الإبطاء من سرعة مرور الزمن. فعلى سبيل المثال، يمر الزمن أسرع قليلا كلما كنت في مكان أعلى.
ونعلم بالفعل أن الساعات النووية تتأثر قليلا بهذا عند وضعها في ارتفاعات شاهقة مقارنة بمستوى سطح البحر – إلا أن دقة تلك “الساعات الضوئية” محسوسة في الحال، حتى عبر أي ارتفاعات طفيفة.
يقول لوبو: “يكفي ببساطة رفع ساعة ضوئية لسنتيمتر واحد لتغيّر من ذبذبتها.”
بهذه الطريقة، تصبح مقياساً للجاذبية، ويمكن استخدامها كمسبار لكشف أعماق الأرض – لاكتشاف تجمعات النفط أو الغاز التي قد تغير من قوة الجاذبية الأرضية في موقع محدد.
ويقول لوبو: “هذه هي التطبيقات ذات التأثير الهائل التي ستظهر للعلن.”
ويعتقد جيفيرتس أن هناك احتمال أيضا لحدوث أمور غير متوقعة. فماذا لو وجدنا تغيّراً في ذبذبات تلك الساعة بشكل ضئيل عبر الزمن؟ “سينتابك القلق، لأن قوانين الفيزياء نفسها ستكون متغيرة،” حسب قوله – بخلاف ما نفترضه منذ زمن طويل بأنها ثابتة.
إذا كان تاريخ دقات عقارب الساعة يعلّمنا شيئاً، فهو يخبرنا أن كل خطوة إلى الأمام قد أحدثت ثورات متعددة هنا وهناك – من ارتياد البحار، إلى أنظمة الجي بي إس، مروراً بالهواتف الذكية. فهل ستسبب أحدث أجهزة قياس الزمن ثورات بنفس الشكل؟
الزمن وحده كفيل بالرد على هذا التساؤل.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future.