يبدو تأمل قرد من نوع “أورانغ تان” أو (إنسان الغاب) خلال نومه، شبيها بالنظر إلى رضيع ضخم ذي حُمرة، وهو غافٍ في وداعة.
هذه الكائنات الضخمة، التي تنتمي إلى فصيلة “القردة العليا”، تحب أن تدلف إلى فراش أو عش لتستكين فيه وتخلد إلى نوم طويل وعميق. وبين الحين والآخر، تتراقص أعين تلك الحيوانات خلف جفونها، ما يشير إلى أنها ربما تكون في تلك الأثناء ترى حلما عابرا، من ذلك الذي قد يراود القردة من جنسها.
لكن النظر إلى قرد “البابون” خلال نومه، يبدو أكثر شبها بمشاهدة شخص ضعيف ذي مشاعر مريرة ومصاب بالشك المرضي في الآخرين؛ وهو يحاول جاهدا نيل قدر ولو ضئيل من النوم.
فتلك الحيوانات تنام على نحو غير مريح، جالسة في وضع مستقيم، ومرتكزة بأجسادها على مؤخراتها لحفظ التوازن، بينما لا تكف عقولها عن التفكير وكأنها “تطن”، وبداخلها خوف مستمر من أنها مُلاحقة من قبل شيء أو شخص ما.
ومن شأن ذلك أن يطرح سؤالا مهما: لماذا تنام قردة “إنسان الغاب” بعمق شديد، بينما تعاني قردة “البابون” – التي تنتمي مثلها إلى رتبة “الرئيسيات” – من النوم المتقطع؟
وحسبما يدرك العلماء حاليا، فإن إجابات مثل هذه الأسئلة تضرب بجذورها في عمق تاريخ تطورنا. وتساعد هذه الإجابات على أن تشرح، ولو جزئيا، كيف كان بوسع الكائنات – التي تنتمي إلى فصيلة “القردة العليا” ومن بينها البشر – التطور إلى أن أصبحت على الشاكلة التي نبدو نحن عليها في الوقت الحاضر. كما تفسر السبب الذي يحدو ببني البشر إلى أن يفضلوا عادة الخلود للنوم على الأَسِرَّة.
يقول ديفيد سامسون عالم الأنثروبولوجي (علم الإنسان) بجامعة ديوك بمدينة دورهام بولاية نورث كارولينا الأمريكية “لم يُعترف سوى مؤخرا بأن النوم ربما يُشكل عاملا ذا دور جوهري في عملية التطور البشري.”
رغم ذلك، فنادرا ما درس العلماء كيف يمكن أن يكون النوم قد أثر على تطورنا كنوع من الكائنات الحية. ولذا، قرر سامسون وزميله روبرت شوماكر، من جامعة إنديانا بمنطقة بلومينغتون الأمريكية، الاضطلاع بهذه المهمة تحديدا.
واختار الاثنان إجراء دراسة على كائنات تنتمي إلى نوعين يندرجان تحت رتبة “الرئيسيات”، ونشرا النتائج التي خلصا إليها في الدورية الأمريكية للأنثروبولوجيا الطبيعية.
وقال سامسون لبي بي سي: “اخترنا قردة من نوع أورانغ تان (إنسان الغاب) لأنها نوع من القردة لم يخضعه العلماء المتخصصون في دراسات النوم للبحث والدراسة بعد.”
ويضيف: “بالإضافة إلى هذا، فهي أقرب الكائنات التي تنتمي لفصيلة ’القردة العليا‘ صلة بالبشر، وبالتالي فهي نوع مهم لاستخلاص بيانات يمكن استخدامها لأغراض المقارنة”.
ويستطرد سامسون: “اختيرت قردة البابون تحديدا نظرا لكونها أحد أكبر أنواع القردة حجما من نوع (السعادين) التي لا تستخدم منصات للنوم. في الأساس، كنت أريد تثبيت عنصر حجم الجسم، لأطرح سؤالا مفاده: لماذا يتباين هذان الكائنان الضخمان، واللذان ينتميان لرتبة الرئيسيات، في سلوكياتهما بشكل ملحوظ للغاية خلال النوم؟”
وفي إطار الدراسة، عكف العالمان على تسجيل مقاطع مصورة لخمسة من قردة “إنسان الغاب”، و12 من قردة “البابون” خلال نومها على الأسرَّة، على مدى فترات تتراوح ما بين شهر إلى أربعة أشهر.
ودرس الباحثان أوضاع هذه القردة خلال النوم، وحركات أجسادها، بالإضافة إلى أنماط نومها. كما سجلا الوقت الذي تظل فيه تلك الكائنات المنتمية لرتبة “الرئيسيات” مستيقظة، والوقت الذي تخلد خلاله للنوم. كما لاحظا ما إذا كان نوم تلك القردة متقطعا أم لا.
وشملت الدراسة كذلك مراقبة نشاط الدماغ، عبر قياس الحركة السريعة للعين التي تشير إلى النوم الأقل عمقا أو النوم الخفيف، مقارنة بالحركة غير السريعة للعين التي تشير إلى النوم الأكثر عمقا. وبالنسبة للبشر، ترتبط الحركة السريعة للعين بالاستغراق في الأحلام.
وثَبُتَ عبر هذه الأبحاث أن قردة “إنسان الغاب” تنام لفترات أطول، وعلى نحو أكثر عمقا من قردة “البابون”، وهو ما يشير إلى أن كل الكائنات المنتمية لفصيلة “القردة العليا”، تنام بالفعل بشكل أفضل، من تلك التي تنتمي لفصيلة “السعادين” التي يعرفها البعض باسم “القردة البدائية”.
وهنا يقول سامسون: “اكتشفنا أن كل المعايير المستخدمة لقياس القدرة على النوم المريح أشارت إلى أن قردة إنسان الغاب تنام على نحو أفضل. فمقارنة بقردة البابون، يتسم نوم قردة إنسان الغاب بأنه أكثر عمقا وأطول من حيث المدة الزمنية، وأقل تقطعا.”
فحتى الآن، تبين أن كل تجمع خضع للدراسة من الكائنات البرية التي تنتمي لرتبة “القردة العليا”، ينشئ منصات لكي ينام فوقها. فقردة “إنسان الغاب” وحيوانات الغوريلا والشمبانزي والشمبانزي القزم كلها تنسج منصات – تشبه الأعشاش – بين فروع الأشجار، وذلك في حين يصنع البشر في العصر الحديث أَسِرَّةً للنوم عليها. ولكن نمط النوم يختلف في الأجناس الأخرى التي تنتمي لرتبة الرئيسيات.
فقردة الغيبون، وهي قردة أصغر حجما، لا تنشئ منصات للنوم، وهو ما لا تفعله كذلك كل قردة السعادين الأكبر حجما مثل البابون. فغالبية هذه الحيوانات، تنام وهي جالسة فوق الأشجار، مستندة إلى أحد الفروع لضمان البقاء في وضع متزن. وغالبا ما تكون قردة السعادين تلك جالسة في وضع مستقيم، ومتكئة على مؤخراتها. ويفسر هذا الاختلاف في نمط النوم إذا كانت تلك الكائنات تنعم بنوم مريح أم لا.
فقردة “إنسان الغاب”، التي خضعت للدراسة، تحب أن تسترخي وتستلقي نائمة على بطنها أو ظهرها. أما قردة البابون فتقضي – كما يقول سامسون – غالبية وقتها “نائمة وهي جالسة في وضع حراسة”. وعندما تخلد قردة البابون للنوم على هذه الشاكلة، فإنها تجلس غالبا على أرداف تنتشر فيها بقع وردية اللون سميكة من الجلد الغليظ، وهي بقع يُطلق على الواحدة منها اسم “الثفن الإسكي”. وربما لعب هذا الاختلاف في أنماط النوم دورا رئيسيا في تطور “القردة العليا”، بما في ذلك البشر.
وهنا يُعتقد أنه قبل ما يتراوح ما بين 14 إلى 18 مليون عام، تحولت الكائنات التي تشكل السلف المشترك لـ”القردة العليا” من النوم فوق فروع الأشجار، إلى النوم بين الفروع، وعلى منصات شُيدت خصيصا لهذا الغرض.
ويقول سامسون إنه لا يعتقد أن “أول قرد شيد منصة من هذا النوع كان يحسب أنه سينعم بنوم أفضل” خلال الليلة التالية لذلك.
وخلال عصر الميوسين، وهي حقبة بدأت قبل 23 مليون عام واستمرت إلى ما قبل خمسة ملايين عام، أصبحت القردة أكبر حجما. ولذا بدأت على الأرجح إقامة منصات النوم، على نحو يجعلها قادرة على تحمل أحجامها وأوزانها الكبيرة.
ويقول سامسون: “اتاحت منصات النوم الفرصة للقردة كبيرة الحجم والوزن للنوم بأمان فوق الأشجار، مُتجنبةً بذلك الحيوانات المفترسة والحشرات الماصة للدماء.”
وقد أجرى الرجل بحثا سابقا أشار إلى أن كل الكائنات المنتمية لرتبة “الرئيسيات” التي يزيد وزنها عن 30 كيلوغراما، والمحتمل أن تكون بحاجة لإقامة فراش فوق الأشجار، تنام على مثل هذه المنصات.
وينطوي النوم في مضجع من هذا النوع على ميزة أخرى مهمة تتعلق بعملية التطور. إذ أن ذلك يتيح الفرصة للقردة لأن تنام على نحو أكثر عمقا، ما يجعلها تنعم بليلة يسودها ما يُعرف بـ”نوم الحركة غير السريعة للعين”.
ويقول سامسون إن هذا النمط من “النوم المريح بشكل أفضل، قد يكون أثر إيجاباً على القدرة المعرفية” إذ ربما يكون ذلك قد أدى لتحسين القدرة على ترسيخ الذكريات في الذهن، على سبيل المثال.
ويضيف: “ربما تشكل القدرة على النوم المريح اختلافا جوهريا بين القردة العليا والسعادين. فالسعادين تقضي وقتا أطول على الأرجح وهي تخلد في نوم خفيف نظرا لكون بيئات النوم الخاصة بها أقل راحة، وكذلك أقل أمنا، فضلا عن كونها مفعمة بالنشاط الاجتماعي. الميزة التي تعوض ذلك هنا، تتمثل في قدرة تلك السعادين على الاستيقاظ بسهولة أكبر عندما يقترب منها وحش مفترس، أو حينما يكون شريك (التزاوج) لأي منها في حالة نشاط، ولكن الثمن (الذي يتم تكبده في هذا الصدد) يتمثل في أن تلك الحيوانات لا تنال الفوائد الكامنة في النوم العميق.”
وفي المقابل، يقول سامسون: “يبدو أننا، نحن القردة العليا، قد ابتكرنا طريقة فعالة لكي ننام على نحو آمن ومريح في الوقت ذاته.. فإذا تحدثنا من منظور متصل بعملية التطور، (سنجد) أنه كما كان للتحول من استخدام فروع الأشجار إلى منصات النوم فوائد مرتبطة بعملية التكيف (مع الظروف المحيطة)، فإن ذلك ما أحدثه تحول الكائنات التي تُعرف بـ(أشباه البشر) من النوم على منصات إلى السعي لتأمين مكان للنوم على الأرض.”
ويرى سامسون أن ذلك التحول، الذي حدث في وقت لاحق، من تلك المنصات إلى النوم على الأرض، ثم على الأَسِرَّة، ربما منح البشر الأوائل ميزة تنافسية مُقارنة بالكائنات الحية الأخرى، التي كانت تعيش معهم على سطح الأرض.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Earth.