ما زالت الروايات المكتوبة لليافعين على الصعيدين العربي والفلسطيني قليلة، ما يقتضي ضرورة الاهتمام بهم، وتخصيص المزيد من الكتابات الروائية والقصصية لهم، ليس من أجل إمتاعهم وحسب، بل لمعالجة مشكلاتهم كلها أو بعضها، وبخاصة مشكلة الجسد، وما يترتب عليها من علاقة بين البنت والولد في سن المراهقة، وكذلك العلاقة مع الوطن وما يترتب عليها من اهتمام بالشأن العام، وبخاصة حين يكون الوطن تحت الاحتلال.
وقد يبدو مناسبًا أن أشير إلى بعض روايات لليافعين صدرت في السنوات الأخيرة في بيروت وعمان، منها رواية «فاتن» لفاطمة شرف الدين، ورواية «ست الكل» لتغريد النجار، وروايات سماح إدريس: الملجأ، النصاب، فلافل النازحين، وخلف الأبواب المقفلة. ويمكن التنويه بالرواية المكتوبة لليافعين في الوطن العربي، من خلال روايتين لسماح إدريس، لما فيهما من أوجه شبه مع ظروفنا هنا في فلسطين، ولعلاقتهما بموضوعي الجسد والوطن، أو موضوعي الحب والحرب اللذين تطمح هذه المقالة إلى متابعتهما، وتحرّي العلاقة بينهما وبين الظروف الموضوعية التي تجتازها فلسطين تحت الاحتلال. والروايتان هما: «النصّاب»، و «فلافل النازحين».
تعتبر رواية «النصاب» وكما جاء على غلافها الأخير مكملة لرواية أولى للكاتب هي «الملجأ»، وقد جاء على غلافها الأخير: «يحاول مازن التفتيش عن نصاب في بيروت زمن الحرب الأهلية اللبنانية، فيكتشف أبعادًا جديدة لمفاهيم السرقة والحب والمسوؤلية». وقد لاحظت أن الكاتب يميل إلى استخدام اللهجة العامية المطعمة بألفاظ من اللغتين الإنكليزية والفرنسية في الحوارات التي اشتملت عليها الروايتان، وهو أمر خاضع للمناقشة، خصوصًا ونحن نتوجه إلى جيل في مرحلة التكوين اللغوي. وفي الروايتين، وهذا هو الذي يعنيني في هذا المقام، يميل الكاتب إلى وضع اليافعين في أجواء الأوضاع السياسية التي مرّ ويمرّ بها لبنان، وبخاصة الحرب الأهلية والعدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، وهو يفعل ذلك من دون افتعال وبطريقة قادرة على جذب انتباه اليافعين إلى ما هو خارج اهتماماتهم الخاصة للدخول في الدائرة الأوسع والأشمل الخاصة بالوطن.
وأما الأمر الثاني الذي لفت انتباهي في الروايتين فهو موضوع العلاقة بين الولد والبنت في سن المراهقة. ففي رواية «النصاب» لا يجد الكاتب غضاضة بالتطرق إلى جمال البنتين المراهقتين ثريا وريما، وبالتركيز على وصف جسديهما حين تظهران بملابس السباحة. يفعل ذلك من وجهة نظر مازن، فيأتي ذلك في سياق بعيد من الإثارة ومن التحريض على استنفار الغرائز، وبما يمهّد لعلاقة سوية بين الولد والبنت بعيدًا من الكبت، ومن التعقيدات التي لا لزوم لها في سن المراهقة التي يتجه الولد المراهق أثناءها نحو الاهتمام بالبنت المراهقة.
مع ذلك، فإن الكاتب لا يتجاهل ما في الواقع الذي يرصده من تعقيدات، فيشير إلى أن أم ريما استطاعت أن تعرف من ابنتها أن وليد صديقها، ينتمي إلى طائفة مختلفة عن طائفتها، وهو الأمر المرفوض من وجهة نظر الأم. ثم يستغرب الكاتب على لسان وليد عقلية والديّ ريما وغيرهما من الناس، حيث «إن أكثر الأهل، كما يظهر، هم على هذه الشاكلة: يسمحون لأولادهم بأن يكونوا «مودرن»… في المظاهر فقط!»
ويتكرر هذا الأمر في رواية «فلافل النازحين» حين تقوم جارات أم موريس وصاحباتها بإفراغ ما لديهن من رواسب طائفية لدى حديثهن عن زواج جوسلين المسيحية من عدنان المسلم، ثم تتصدى لهن أم موريس مفندة كل كلامهن البالي، منتصرة للتعددية وللتعايش بين المواطنين رغم اختلاف مذاهبهم الدينية.
شجرة البونسيانا
في روايتها «شجرة البونسيانا» تتابع أحلام بشارات عبر أسلوب المذكرات ما تراكمه بطلة الرواية «شينورة» من انطباعات عن حياتها اليومية مع أهلها الذين يغادرون قريتهم إلى الأغوار الفلسطينية لزراعة قطعة أرض هناك، ولتحصيل رزقهم من نتاج عملهم فيها. ولا تكتفي هذه الطفلة المشاغبة بذلك، بل إنها ترصد علاقتها بأختيها أثناء ذلك، ولا تكف عن السخرية منهما. وتتدرج الكاتبة في متابعة التفاصيل الخاصة بالحياة اليومية لشينورة وأهلها، إلى أن تكبر شينورة وتصل إلى السن التي تجعلها تنتبه إلى جسدها وإلى التغير الذي طرأ على صدرها، وتؤهلها في الوقت نفسه لإدراك ما يعنيه وقوع بلادها تحت الاحتلال، وما يترتب على ذلك من معاناة ومن عسف وقتل وإذلال.
هنا، في هذه الرواية المكتوبة بلغة موحية وبأسلوب لا يخلو من المفارقات الممتعة يتداخل الجسد مع الوطن، وتتحدد وظيفة النص في لفت انتباه الفتيات والفتيان إلى معاناة الوطن، وفي الوقت نفسه إلى احترام اكتشاف البنت لجسدها وللتغيرات التي تطرأ عليه حين تدخل مرحلة المراهقة، فيبدو هذا الأمر طبيعيًّا، ويتم التعبير عنه في سياق عادي لا يستنفر أي استفزاز أو استغراب.
وعلى العكس من الرحلة الواقعية نحو مكان آخر داخل البلاد، التي شاهدناها في «شجرة البونسيانا»، نجد أنفسنا أمام رحلة خيالية مفترضة تجري في زمن قديم، وتصفها سونيا نمر في روايتها «رحلات عجيبة في البلاد الغريبة»، وهي تمتثل في تفاصيل الرواية للعناصر التي تحكم سير الحكاية النموذجية كما نظّر لها فلاديمير بروب، إذ تبدأ مع الخطوات الأولى لبطل الحكاية حين يغادر مكانه الأول لسبب ما، ويتعرض أثناء الرحلة لصعوبات جمة، يتمكن من التغلب عليها بقدراته الشخصية، وبمساعدة عناصر خيّرة يسوقها إليه القدر أو المصادفات الطيبة، ثم يعود إلى مكانه الأول وهو مكلل بالنصر وبالظفر.
بطلة الرواية شابة اسمها «قمر»، تضطرها ظروف قاهرة إلى مغادرة مكانها الأول، وهو قرية في فلسطين، تدخل عبر المغامرة والسفر في إشكالات وأخطار عدّة، تلتقي نساء ورجالاً متعدّدي الأمزجة والصفات، بعضهن وبعضهم أخيار وآخرون منهم أشرار، وتضطر إلى التكيف والتلاؤم مع الظروف المستجدة التي تواجهها مرّة بالحيلة وأخرى بالذكاء وثالثة بالدهاء، وأثناء ذلك تحب شخصًا اسمه أحمد وتتزوج به. وبعد كثير من التجارب والأسفار والمغامرات تلتقي مع زوجها الذي افترق عنها قسرًا بعد تعرض السفينة التي كانت تقلهما مع طفلتهما، نجمة الصباح، إلى إعصار. ثم يجدّان في البحث عن طفلتهما المفقودة، على أن تعود قمر بعد ذلك هي وزوجها وطفلتهما إلى مكانها الأول: فلسطين.
ما يميز الرواية اشتمالها على قدر من التشويق نتيجة ما تعرضت له بطلة الرواية من مفاجآت، بعضها سار وبعضها الآخر غير سار، وما أقدمت عليه من مغامرات غير مكترثة للعواقب. واشتمالها كذلك على تخييل منطلق إلى أبعد الحدود، ما يناسب اليافعين ويثير حماستهم وانتباههم.
ومما له دلالته في هذه الرواية، ملامسة موضوع الجسد بأسلوب مرن، حيث تقع قمر قبل الزواج في حب قائد القراصنة، لكنها كانت مضطرة إلى إخفاء أنوثتها، متنكرة في هيئة رجل، لكي تتمكن من ركوب السفينة التي يشرف عليها. ومع ذلك، لم تستطع أن تخفي مشاعرها الأنثوية تجاهه بعد أن حاز إعجابها بشجاعته، رغم امتهانه القرصنة. وحين وجدت نفسها غير قادرة على الاستمرار في إخفاء هويتها الأنثوية قررت أن تكاشفه بالحقيقة، لكن الظروف كانت أسبق منها، حيث قتل حبيبها قبل أن يعرف الحقيقة التي ظلت خافية عليه إلى أن فارق الحياة. وثمة في الرواية إشارات أخرى إلى موضوع الجسد الذي تتناوله الرواية على النحو الذي يجعله قريبًا من مدارك اليافعين، من دون إنكار مفرط لهذا الموضوع، أو إفراط غير مستساغ، وأعتقد أن هذا التناول الموزون للموضوع كفيل بتنمية مشاعر اليافعين على نحو صحيح، من دون عقد أو تعقيدات.
عالم الفتيات المراهقات
في روايتها الأولى للفتيات والفتيان «اسمي الحركي فراشة» تمكنت أحلام بشارات من الدخول إلى عالم الفتيات المراهقات، واستطاعت رصد التفاصيل الدقيقة الحميمة لهذا العالم المملوء بالفضول والرغبة في المعرفة، وبالذات معرفة الجسد الأنثوي وأسراره والتطورات التي تطرأ عليه في سن المراهقة. بطلة الرواية فتاة في الخامسة عشرة، تطرح العديد من الأسئلة عن كل شيء، والسؤال الذي لا تتلقى إجابة عنه أو الذي لا تطرحه على نفسها ولا تجرؤ على طرحه على الآخرين تحتفظ به لنفسها وتخبئه في «المحفظة» لعلها تجد له ولأسئلتها الأخرى أجوبة في وقت آخر، لكنها تشعر بانجذاب نحو فتى اسمه «نزار» ولا تفتأ تراقبه لدى مروره من أمام البيت للتعبير عن حبها له، ثم تكتشف أن زميلتها «ميس» تحب الفتى نفسه، ما يُشعر بطلة الرواية بالغيرة، ويظل الأمر كذلك إلى أن تقع المفاجأة التي تتمثل في استشهاد الفتى برصاصة من جيش الاحتلال.
والرواية لا تكتفي برصد موضوعة الجسد والعلاقة التي يمكن أن تنشأ بين الولد والبنت في سن المراهقة، وإنما تتطرق إلى القضية الوطنية وإلى العمل في المستعمرة التابعة للمحتلين، وتتعرض للعمالة للعدو. وتلك موضوعات يمكن لليافعين أن يحيطوا بها علمًا من دون إثقال عليهم أو تحميلهم مسؤوليات الولاء للوطن وللقضية قبل الأوان، مثلما هو الأمر حين يتعلق بالأطفال وبوعيهم وبمدى ملاءمة هذه الموضوعات لمداركهم التي ما زالت غضّة طرية.
وفي رواية «أشجار للناس الغائبين»، وهي لليافعين وللشباب، تستعيض أحلام بشارات عن «المحفظة» التي اعتمدتها في روايتها الأولى بـ «الخزانة» التي تخبئ فيها الأسرار. وفي الرواية كلام على الجسد وعلى بعض أجزائه، في تداخل مع الكلام على السياسة وبعض شعاراتها من مثل: نعم للوحدة لا للانقسام، ونحن مع الربيع العربي. وهي تصف تشدّد أبيها وهو في سجون المحتلين تجاه ذهابها إلى الصالون لتمليس شعرها، وكذلك تجاه عملها في الحمام، ثم تصف موافقته على الذهاب بعد إقناع زميله في السجن له بذلك. وتعلّق «فلستيا» بالقول إن كثيرًا من شؤون حياتها وحياة أسرتها عليها أن تتعطل لأن أباها في السجن. وتتساءل: «هل لأنك في السجن علينا أن نموت يا أبي؟»
ومما له دلالته أن تعمل فلستيا (التي اشتق اسمها من اسم فلسطين)، في حمام في المدينة يغتسل فيه الرجال والنساء، وفقًا لمواعيد محددة تجعل للرجال أيامًا، وللنساء أيام. فلستيا تغسل أجساد النساء، وتتعرف إلى كثير من أسرارهن، وكأنها تكمل دورة الحياة مع جدتها زهية التي كانت تسحب الأطفال من بطون أمهاتهم حين يولدون، وتغسل أجساد النساء حين يدركهن الموت. لكن دورة الحياة هذه تظل ناقصة ما دامت فلستيا لا تعثر على فتى الأحلام بسبب تعقيدات الوضع الاجتماعي، إلا من خلال الحلم. في الحلم تلتقي فلستيا حبيبها «بيرقدار»، الذي كان يعمل في الحمام مثلما تعمل فلستيا فيه، وكانت مهمته تغسيل أجساد الرجال. لكنه لم يعش في زمن فلستيا، إنما هو قادم إليها من زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، وهي لا تراه ولا تقيم علاقة معه إلا حين تنام. وحين يتكاثف من حولها السواد فإن ابتسامة بيرقدار هي التي تنعشها وتخفّف من معاناتها. وهنا نصطدم بالعوائق التي يقيمها المجتمع أمام لقاء الفتاة بالشاب، فتعبر عنها الكاتبة بمثل هذا التعقيد الذي يجعل العلاقة محفوفة بالأخطار وبالرفض والاستهجان، وهي تخبره بأنها تخاف المدينة، وهو يحرّضها على ألا تخاف. لكنها تخاف.
ولا تجد عزاء إلا في صديقتها «فتحية». ورغم أن فتحية تشجعها على التحرر: «افتحي أبواب حياتك، إنك تعيشين في العتمة». فإن فلستيا تظل مترددة، وهي تكاشف فتحية بالقول إن ولدًا يزورها في المنام منذ أن بدأت تعمل في الحمام، هو بيرقدار. وفي هذا تعويض عن قسوة الواقع، غير أنها حين تلمحه في النهار يختفي بسرعة. فتحية بدورها تفتح قلبها لصديقتها وتخبرها بأنها تحب ولدًا اسمه علي. علي هذا يترك حبيبته ويسافر، ولذلك فإن فتحية تبكي وتكتب شعرًا حزينًا نتيجة ما فعله علي، الذي سافر وأخذ معه تجربة فتحية الأولى في الحب.
هنا تتبدى إنسانية فلستيا، التي لم تحرّض فتحية على هجاء علي لأنه تركها وسافر، بل تنصحها بأن تزرع له شجرة في الحديقة الخلفية لروحها، وهي واثقة من أن تلك الشجرة سوف تسندها وتساعدها.
وهنا، يتبدّى فهم فتحية مشاعر صديقتها حين تعلم أن حبيب فلستيا ليس إلا حلمًا يأتيها في المنام، فلا تستنكر ذلك، لكنها ترجو أن يصبح بيرقدار شخصية حقيقية. ويبلغ التعبير عن قمع المجتمع للعلاقة السوية بين الولد والبنت ذروته حين تتخيل فلستيا ذهابها إلى الحمام وهي تضع يدها الصغيرة في يد بيرقدار، ويصلان الحمام، يبتسم لهما الشاب العامل هناك، وتقوم أم وليد بتكليف فلستيا بجمع المناشف عن حبال الغسيل، تذهب فلستيا ومعها بيرقدار الذي يقوم بالنيابة عنها بجمع المناشف، وهي جالسة على الدرج ترقبه بارتياح. إنها حياة كاملة غارقة في الوهم وفي أحلام اليقظة وأحلام المنام.
ولا يقف الأمر عند الأحلام وحسب، بل يتكامل في حياة فلستيا تجاور الحياة والموت في مجتمع مبتلى باحتلال يقمع الناس ويسجنهم ويقتلهم نتيجة حبهم وطنهم، مجتمع يسخر من الرجل إذا خرج للتمشي في طرقات القرية مع زوجته للمتعة أو لأي غرض آخر، ولا يسمح له باصطحابها معه إلا إلى الحقل للعمل فيه، شريطة أن يمشي أمامها وتمشي هي خلفه، وتظل تحلم بأن تدركه لتمشي إلى جواره من دون أن يتحقق لها هذا المطلب المشروع.
وما تجدر ملاحظته بعد قراءة الروايات المنوّه عنها أعلاه أنها مكتوبة بضمير المتكلم، ما يجعل السرد حميمًا بالغ الحيوية. ويتجسد هذا الأمر بوضوح في روايتَي سماح إدريس، بل إن السرد في روايته «فلافل النازحين» يتم من خلال تعدّد الأصوات، حيث يسرد كل من الزوج عدنان والزوجة جوسلين، والبنت وردة والولد رامي، والكلب سعيدون، الخ… الأحداث من وجهة نظره. ويتجسد كذلك في رواية سونيا نمر عبر السرد المتأني وتشابك الأحداث، وفي الروايات الثلاث لأحلام بشارات، التي تكتب نصوصها الروائية بلغة جميلة تتضمن بعض مفردات من البيئة الشعبية التي تعيش فيها بطلات رواياتها، علاوة على بعض الأمثال الشعبية التي تزدهر في هذه البيئة الشعبية. ولا تخلو هذه الروايات الثلاث من نزعة نحو السخرية التي تتيح للمتلقي متعة أثناء القراءة، ومن تخييل لا بد من توافره لإثراء خيال الطفل. كذلك، يتجاور الموت والحياة جنبًا إلى جنب في روايات أحلام بشارات، ربما بسبب أن بلادنا تعيش الموت كل يوم نتيجة ممارسات المحتلين الإسرائيليين، وهي تعيش حياتها كل يوم كذلك في إصرار أكيد على الحياة.