«… فهو قد عاش إذاً، واحداً وسبعين عاماً عاصر خلالها حكم الترك والمماليك، ثم عصر الحملة الفرنسية على مصر، ثم عصر محمد علي. وكان له موقف معروف من كل عصر من هذه العصور. أما تنديده بعصر الترك والمماليك فتفيض به كل صفحة من صفحات تاريخه «عجائب الآثار»، وأما رأيه في الحكم الفرنسي وفي الحضارة الفرنسية، فقد اختلط فيه السلب والإيجاب بسبب موضوعيته واستقلاله في الرأي عن عواطف الغوغاء وعن ترهيب الحكام وترغيبهم، حتى وصفه الفرنسيون بأنه شيخ متعصب، ووصفه أبناء جنسه بأنه نصير الفرنسيين… وأما موقفه من محمد علي باشا، فقد كان واضحاً وقاطعاً: كان يعتقد ويجاهر بالقول والقلم منذ ولاية محمد علي عام 1805، حتى وفاته هو عام 1825، أن محمد علي مجرد مغتصب حكمَ مصر من أمرائها الشرعيين وهم المماليك المصريون…». المقصود في هذا النص الذي يرد في كتاب «تاريخ الفكر المصري الحديث» للويس عوض هو عبدالرحمن الجبرتي، أحد كبار المؤرخين الذين عرفتهم مصر، وواحد من أهم الكلاسيكيين في كتابة التاريخ، وهو الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر وكتب عنها بالتفصيل نصوصاً لا تزال حية وتشكل المرجع الأساس في التأريخ لتلك الحملة حتى اليوم. ولعل أغرب ما في نصوص الجبرتي، هو اتسامها بموضوعية ندر أن اتسم بها عمل تاريخي عربي في زمانه أو الزمان السابق عليه. وهو أمر لم يخفَ على الذين تناولوا سيرة الجبرتي، كما على الذين كتبوا عن الحملة الفرنسية، حيث نعرف أن الجبرتي، سواء في «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» أو في «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس»، لم يفته وهو يندد بالجانب العسكري أو السياسي من الحملة، أن يتحدث بإيجاب وحتى بانبهار، عن جوانبها العلمية والحضارية، حيث إنه، وكما يفيدنا لويس عوض وغيره، كان شديد الاهتمام، منذ اللحظة الأولى، باستقصاء كل أخبار العهد الجديد، وجمع كل الوثائق الخاصة به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بروح المؤرخ الموضوعي الراغب في المعرفة، وبروح المتأمل اليقظ المحلل ما يدور حوله من أحداث، وليس بروح الوطني الملتهب الرافض كلَّ ما حوله من أفكار وأفعال، ولا بروح الثائر المتعصب للخلافة العثمانية. ذلك أن الجبرتي شعر منذ اللحظة الأولى لدخول الفرنسيين مصر بأنه في إزاء «حضارة جديدة أرقى من حضارة الترك والمماليك، لا في مقوماتها المادية فحسب، ولكن في كثير من قيمها ونظمها السياسية».
> ويتجلى هذا كله، بالطبع، في الكتاب الرئيس للجبرتي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» الذي حقق وطبع حتى الآن مرات عدة، آخرها في أربعة أجزاء صدرت ضمن إطار مشروع «مكتبة الأسرة» المصري الذي كان يعتبر أكثر المشاريع الثقافية طموحاً في العالم العربي في السنوات الأخيرة. والطبعة الصادرة عن «مكتبة الأسرة» هي تلك التي كانت صدرت من تحقيق عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم عن «مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر» تحت إشراف د. عبدالعظيم رمضان الذي يقول في تقديمه للكتاب إنه «يكاد ينفرد بالعناية بتاريخ الحياة الاجتماعية في مصر، الأمر الذي جعل له أهمية خاصة» حيث «كانت للجبرتي ملاحظاته القوية على ما يطرأ على الحياة الاجتماعية في مصر من تغيير». ومن هذه الملاحظات، مثلاً، ما يتعلق بنشأة المسرح والتمثيل في مصر للمرة الأولى. كما أن الجبرتي «استطاع أن يصور أصدق تصوير أنواع المظالم التي عاناها الشعب المصري خلال القرنين 17 و18، من الحاكم المستبد الجاهل، وموقف المصريين ومقاومتهم الحكام البغاة، وكيف أن شيوخ الأزهر كانوا وسطاء لوقف طغيان المماليك وكيف أن الأزهر يحتل مكانة مرموقة في الحياة المصرية».
> ويتحدث «عجائب الآثار» في أجزائه المتتالية، عن تاريخ مصر، سائراً في هذا على خطى ابن خلدون والمقريزي، لا سيما الأول الذي نعرف أنه ما دخل في عالم الأحداث التي يؤرخ لها إلا بعدما حدد أسلوبه، نظرياً، في كتابة التاريخ، وكتب صفحات مهمة ورائعة في تبرير كتابته انطلاقاً من عرضه النقدي الفريد لكل المؤرخين الذين كتبوا قبله. هكذا، نجد الجبرتي، في هذا السياق، يقول لنا إنه ما كتب التاريخ إلا لأنه أدرك أهميته على اعتبار أنه المقياس الحقيقي الذي يقيس به كل عاقل «نفسه على ما مضى من أمثاله في هذه الدار». ويؤكد لنا الجبرتي «أن التاريخ علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم (آثارهم) وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم. وموضوعه [هو] أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم. والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت. وفائدته: العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن، ليحترز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويجتنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني ويجتهد في طلب الباقي». وبعد أن يفصل لنا الجبرتي بداية التدوين التاريخي في الإسلام يقول: «ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني، تعتني بتدوينه سلفاً عن سلف، وخلفاً بعد خلف، إلى أن نبذه أهل عصرنا وأغفلوه، وتركوه وأهملوه، وعدوه من شغل البطالين وقالوا «أساطير الأولين»، ولعمري أنهم لمعذورون، وبالأهم مشتغلون، ولا يرضون لأقلامهم المتعبة في مثل هذه المنقبة، فإن الزمان قد انعكست أحواله، وتقلصت ظلاله، وانخرمت قواعده في الحساب (…). وفن التاريخ علم تندرج فيه علوم كثيرة لولاه ما ثبتت أصولها ولا تشعبت فروعها». وبعد أن يفيدنا الجبرتي بأن الكتب المصنفة في فن التاريخ كثيرة «ذكر منها في مفتاح السعادة 1300 كتاب»، يعدد لنا أهم تلك الكتب منذ الطبري والمسعودي وحتى زمنه، لكنه يلفتنا إلى أن هذه الكتب جميعاً «صارت أسماء من غير مسميات. فإنا لم نرَ من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدستة بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف في المدارس، مما تداولته أيدي الصحافيين، وباعها القوم والمباشرون ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم».
> وإذ يوضح الجبرتي هذا كله يتناول التاريخ منذ أول الخليقة حتى زمنه، وصولاً إلى الحملة الفرنسية، غير أن المراحل الأولى يختصرها اختصاراً مورداً صفحات قليلة يعالج فيها أوضاع مصر عند ظهور الإسلام ودخوله إياها، وصولاً إلى الخلافة العباسية والدولة الأيوبية والملوك التركية، بادئاً إيراد التاريخ مفصلاً مع المماليك والظاهر بيبرس، حيث يبدأ هنا بمعالجة الأحداث عاماً بعام مورداً الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية متوقفاً عند أموات كل عام في شكل موسوعي… والمهم هنا هو أن الجبرتي حين يصل إلى زمنه يفرد صفحات متميزة للحديث عن الوجوه الحضارية للحملة الفرنسية، عاقداً مقارنات مهمة جداً، بين ما هو قائم وكل هذا الجديد الذي يدخله… الفرنسيس… مرفقاً ذلك كله بروح التقدير لاحترام الفرنسيين العلم و «الراغبين فيه حتى ولو كانوا من غير جنسهم وملتهم». ويلفتنا لويس عوض إلى أن الجبرتي لم يكتب هذا الكلام الموضوعي فيما كان الفرنسيون لا يزالون في مصر، بل بعد رحيلهم، ما يضفي على كتابته له، موضوعية مطلقة.
> ولقد عاش عبدالرحمن الجبرتي بين عامي 1754 و1825، ابناً لأسرة مصرية، حبشية الأصل، ولأب كان من أغنياء الأزهريين. ونشأ مؤرخنا في جو ديني وعلمي وسط علماء الأزهر الذين كان يخالطهم أو يسمع بهم وعنهم. أما أستاذه الأهم فكان المؤرخ السيد محمد مرتضى الزبيدي، صاحب «تاج العروس» اليمني الذي نزل مصر في عام 1754. وحين دخل نابوليون القاهرة كان الجبرتي في الرابعة والأربعين. وإذ هرب الجبرتي من القاهرة وقتذاك، قيل إن نابوليون استدعاه وعينه عضواً في الديوان الذي شكله، مع أن ثمة من المراجع من يقول إن الجبرتي لم يعين في الديوان إلا بعد مقتل كليبر… المهم أن الجبرتي كان في ذلك الحين بدأ يُعرف كعالم ومؤرخ، وراحت كتبه تنتشر وتصبح بالتدريج مرجعاً، وأهمها بالطبع كتاباه «عجائب الآثار» و «مظهر التقديس». ونذكر هنا أن كتابات الجبرتي صودرت ومنع تداولها أيام محمد علي، ليرفع عنها الحظر لاحقاً أيام الخديوي توفيق.
alariss@alhayat.com