عندما زار الرئيس بشار الأسد سوتشي في آب (اغسطس) ٢٠٠٨ لتوقيع عقود تسليح جديدة ودعم التدخل العسكري الروسي في جورجيا، لم يكن يتوقع ان يأتي عام ٢٠١٥، حيث الدعم العسكري في الساحل محوري لبقاء النظام السوري، ولم يكن يتوقع ان تكون سورية بعد جورجيا وأوكرانيا ساحة كي يستعرض فيها بوتين عضلاته في اللعبة الدولية وينفذ عقيدته الدفاعية.
في الفترة الأخيرة، أقدمت موسكو على جملة من الخطوات. سياسياً، استضافت اجتماعي «منتدى موسكو» بين النظام و «معارضين» في بداية العام الحالي وكانت لديها خيبة من موقف ممثل الحكومة الذي لم يقدم شيئاً بما في ذلك «الخدمة الشفوية». كما دعت الخارجية الروسية معظم، أو جميع، قادة التكتلات السياسية والشخصيات المعارضة لإجراء مشاورات وتوحيد المعارضة وكسر احتكار «الائتلاف الوطني السوري». ديبلوماسياً، كانت موسكو محرك إصدار بيان من مجلس الأمن تبنى «بيان جنيف» وضغطت على فنزويلا لدعم صدور البيان الرئاسي بالإجماع لمباركة مشروع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لعقد متزامن للجان العمل الأربع في جنيف في الأيام المقبلة وصولاً الى تقديم تقرير الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. أمنياً، اقترحت «معجزة» تشكيل تحالف إقليمي – دولي يضم الجيش النظامي لمحاربة «الإرهاب» كما نظمت لقاءات بين مسؤولين أمنيين سوريين وخليجيين، في وقت تحولت موسكو وجهة لقادة عرب بحثاً عن حل للأزمة السوررية. عسكرياً، رفعت موسكو، بناء على دعوة رسمية من الأسد، نوعية وكمية الدعم العسكري للنظام عبر ارسال مزيد من الخبراء والسيطرة على مطار اللاذقية وبحث احتمال تحويل الميناء في طرطوس الى قاعدة عسكرية.
للخروج بتفسير لما تريد موسكو وربط هذه العناصر السياسية والديبلوماسية والامنية والعسكرية وتصاعدها، لا بد من استعادة نظرة موسكو الى الازمة السورية. أول عنصر، هو شعور روسيا بأنها «خدعت» في ليبيا عندما دعمت في مجلس الامن قراراً «انسانياً» مهّد الطريق لتدخل عسكري غربي فيها. فقدت روسيا ليبيا – معمر القذافي بعد عقد من فقدانها العراق – صدام حسين، لذلك فإن استخدامها حق النقض (فيتو) في مجلس كان دائماً في المرصاد لـ «منع تكرار الخديعة الليبية». وضمن هذا السياق، جاءت عودة فلاديمير بوتين، بنسخة جديدة، الى الحكم في ٢٠١٢ ليكون «سيد الكرملين» مختلفاً عن ذاك الذي حكم قبل بضع سنوات وغير سلفه ديمتري ميدفيديف. لعب بوتين على استعادة الشعور القومي الروسي المنهار بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهجم بجرأة وتصميم في وقت كان الرئيس باراك اوباما ينسحب ويتردد. وكان انقلاب بوتين على نفسه وعلى اسلوب ميدفيديف مدعاة ترحيب لدى أوساط واسعة من الرأي العام الروسي للسعي الى التمسك بقواعد النفوذ السوفياتي، وسورية آخر القواعد في الشرق الأوسط. وبينما يبحث أوباما الانسحاب من الشرق الاوسط ويرى إرثه في العودة الى كوبا وإعادة إيران الى المجتمع الدولي، فإن بوتين يرى إرثه في استعادة أبرد للحرب الباردة، ما قوبل بترحيب من الحلفاء القدماء لموسكو والحلفاء الجدد الذين أُصيبوا بخيبة من انطوائية اميركا – اوباما.
اقتصادياً، بلغت قيمة التبادل التجاري بين روسيا وسورية بليوني دولار أميركي في العام ٢٠١٢ وانخفضت الى نصف بليون دولار قبل سنتين مع بقاء صفقات تتعلق بالغاز والنفط مع شركات روسية ورهان على صفقات كبرى تتعلق بغاز البحر المتوسط قبالة الشواطئ السورية. ولا تقل أهمية صفقات السلاح، اذ جرى في ٢٠٠٦ بعد سنة من حل مشكلة ديون الاتحاد السوفياتي، توقيع صفقة عسكرية بقيمة أربعة بلايين دولار أميركي، اضيفت اليها صفقات رفعت اجمالي قيمتها الى ٢٠ بليوناً في ٢٠١٠. ويشمل ذلك وجود الكثير من الخبراء العسكريين بينهم مئة في ميناء طرطوس المحدث في ١٩٨٤ أي بعد أربع سنوات من «معاهدة الصداقة» السوفياتية – السورية. وكان الهدف من هذا الميناء خدمة الاسطول السوفياتي الخامس الذي انحل مع انتهاء الحرب الباردة. الآن، تجري جهود لتحويله قاعدة عسكرية، اضافة الى تأسيس مطار عسكري من مطار اللاذقية المدني الذي بات في عهدة الروس. عليه، لن يكون ميناء طرطوس رمزياً كما كان، بل سيكون عسكرياً وعملياتياً.
بين العوامل المهمة، تنامي التهديد الارهابي، ففي التقديرات الروسية، أن في سورية ألفا متشدد جاؤوا من دول اسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق، بينهم ١٥٠٠ من الشيشيان بمن فيهم «عمر الشيشاني» المعروف بـ «وزير الحرب» في تنظيم «داعش»، اضافة الى حوالى ١٥٠ من روسيا. ويشكل هؤلاء جميعاً حوالى ٢٠ في المئة من الاجانب الذين يقاتلون مع التنظيمات المتشددة في سورية.
واذا كانت الفترة ٢٠١١-٢٠١٢ مرتبطة برغبة موسكو بالانتقام من الغرب بعد «الخديعة الليبية» والفترة ٢٠١٢-٢٠١٣ مرتبطة برفض تغيير الانظمة من الخارج والحفاظ على العلاقات التقليدية في آخر المعاقل الروسية في الشرق الاوسط، فان موسم ٢٠١٤-٢٠١٥ مرتبط بتنامي التهديد الارهابي وتحويل التوقعات الروسية الى واقع، اضافة الى المواجهة الروسية – الغربية الممتدة في اوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الاوروبية والاميركية، والبحث عن اعادة انتاج النظام بشرعية جديدة: مكافحة الارهاب. بات الجهد الروسي المتعدد الجوانب هو الحفاظ على المصالح الروسية العميقة ضمن نظام اقليمي قيد الولادة. وباعتبار ان ايران مرشحة لدور مهم في النظام الاقليمي الوليد يعتمد على الميلشيات في الشرق الاوسط، فإن روسيا تجد نفسها في منافسة مضمرة مع إيران، خصوصاً وسط الكلام عن قرب تشكيل «مجموعة اتصال» دولية – اقليمية بعد اقرار الاتفاق النووي أميركياً الشهر المقبل. لذلك، فإن موسكو تعزز علاقتها التقليدية مع الجيش النظامي السوري وتمده بالذخيرة والسلاح والمعدات والخبراء، كي تمنع انهياره ضمن «الحفاظ على المؤسسات»، وكي يكون قادراً على مواجهة الميليشيات الشيعية المحسوبة على النظم الاسلامية والمعتدلة. وكان بوتين سمع مقترحات واغراءات من دول عربية كبرى، لمواجهة روسيا للنفوذ الايراني و «حزب الله» ومحاربة «داعش»، بينما كانت ايران تسعى الى «هندسة اجتماعية» بدأت ملامحها في مفاوضات الزبداني قرب دمشق وبلدتي الفوعة وكفريا في ريف ادلب. هل صدفة ان مفاوضات المقايضة الطائفية بين الزبداني والفوعة توقفت مع وصول المدد الروسي؟
لا غرام… بل مصالح
بوتين «ليس مغرماً» بالرئيس الاسد. يأخذ عليه انه سعى في بداية حكمه للإنفتاح على الغرب واوروبا، وتأخر الى بداية ٢٠٠٥ كي يقوم بأول زيارة الى موسكو بعد فشل محاولات الانفتاح على الغرب. كما ان الاجهزة الروسية، تأخذ على دمشق عدم الاستجابة لطلباتها تسليم او ترحيل قيادات من المتطرفين الشيشان خلال عقد التسعينات. ونقل مسؤول عربي عن بوتين قوله في جلسة خاصة قبل فترة وجيزة، انه «يتخوف» من احتمال ان يكرر النظام السوري ما فعله الرئيس أنور السادات في بداية السبعينات لدى انفكاكه عن الاتحاد السوفياتي وتحوله غرباً وتوقيع اتفاق سلام او «الارتماء الكامل في الحضن الايراني»، مضيفا ان روسياً «تدافع عن مبادئ القانون الدولي وترفض «الهندسة الاجتماعية» وتريد وحدة سورية ومؤسساتها»، ما يعني ان روسيا تدافع عن مصالحها العميقة الأبعد من الأفراد. هذا ما يعرفه الأسد، من انه بحاجة لبوتين مثلما الاخير بحاجة اليه لتعزيز الدور الروسي في الاقليم.
كان لافتاً، انه بالتوازي مع زيادة الانخراط العسكري الروسي في اقليم النظام ومعقله في اللاذقية وطرطوس، أعلن بوتين ان الأسد مستعد لـ»تقاسم السلطة مع المعارضة البناءة» وانه مستعد لإجراء «انتخابات برلمانية مبكرة». أهمية هذا الكلام، انه جاء من بوتين الذي انخراط شخصياً بالملف السوري في نهاية العام الماضي، وليس من أي مسؤول روسي آخر. أيضاً، حديث بوتين عن الحل السياسي، على تواضعه، جاء بعد أيام من ظهور الأسد في مناسبتين، خطاب ومقابلة، من دون الاشارة الى اي حل سياسي. أيضاً، بعد رفض دمشق المبادرة الايرانية لانها تضمنت انتخابات برقابة دولية وتمسك النظام بـ «شرعية الانتخابات الرئاسية العام الماضي» والانتخابات البرلمانية و «عدم حصول أي فراغ دستوري». ولا بد من ان الانخراط الروسي، جاء بعد رفض النظام طلبات عدة من بوتين لتقديم «اجراءات بناء ثقة»… ولو شكلية.
اغلب الظن، ان بوتين، يحاول ربط الخيوط السياسية والديبلوماسية والامنية والعسكرية معاً. هو يرى ضرورة تشكيل تحالف بقرار دولي لمحاربة «الارهاب» بدلاً او منافساً للتحالف الذي تقوده أميركا في العراق بطلب من الحكومة العراقية ويتمدد الى سورية رويداً رويداً بقرب انضمام بريطانيا وفرنسا واستراليا وهولندا والدنمارك الى غارات التحالف في سورية. بوتين يلوح باحتمال ان تقوم مقاتلات وقوات روسية بقتال «داعش» في شكل منفرد في مناطق النظام و «تنظيف» الاقليم من جميع الفصائل الاسلامية والمحلية على اطراف دمشق، اذا لم تكن واشنطن مستعدة لصوغ تحالف بقرار دولي. ويريد ان يلجم فكرة اقامة منطقة آمنة شمال سورية، لم تكن ادارة اوباما اصلاً متحمسة لها، وان يضغط بقوافل اللاجئين على اوروبا بعد الازمة الاوكرانية، وان يدغدغ بعض الاشارات التي التقطها من زيارات قادة عرب في الاسابيع الاخيرة.
صوغ التحالف الدولي – الاقليمي، يريده بوتين بشراكة الجيش النظامي، الذي يعززه، بما يعني ضمان مصالح روسيا، ويتطلب بدء مشوار استعادة الشرعية للنظام السوري والبناء على المنعطف الذي حصل بالاتفاق الاميركي – الروسي للتخلص من السلاح الكيماوي في خريف ٢٠١٣. أيضاً، حديث موسكو على «تقاسم السلطة مع معارضة بناءة» و «انتخابات مبكرة» يأتي في سياق الضغط على النظام للإقدام على خطوات سياسية، لا تتضمن أي «هندسة اجتماعية»، تسهل عملية استعادة الشرعية. ولا شك، ان وصول مساري اللجان الاربع والعصف الفكري الذي اقترحه دي ميستورا ولقاءات المعارضة، الى تقاطع عقد «جنيف-٣» يكون منصة مهمة في طريق استعادة الشرعية المفقودة.
بوتين ينغمس عسكرياً في اللاذقية معقل النظام ويعزز موقفه التفاوضي لتنفيذ «المعجرة» الروسية ورفض «الهندسة الاجتماعية» من بعض حلفاء المعارضة وايران حليف النظام. وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حذّر مسؤولين سوريين «رفعوا سقفهم التفاوضي» مع الامم المتحدة، قائلاً: «يجب ألا تنسوا ان سورية بيدق صغير من لعبة روسيا الدولية»، فيما عاد الأسد للحديث في اجتماع مع قيادات حزبية قبل أيام عن «حكومة وحدة وطنية» في الأشهر المقبلة،
بعدما طمأنهم الى ان الدعم العسكري الروسي استراتيجي وسيؤدي الى الحسم العسكري».
لا شك ان لدى بوتين الكثير من الطموحات الجريئة التي يريد تحقيقها، في سورية ومن سورية، في السنة الاخيرة من عمر ادارة أوباما… كي يكون مفتاح الحل لديه وليس لدى إيران إذا تشكلت «مجموعة الاتصال».