«الخلافة السيبرانية» هو عنوان العملية الإلكترونية التي يشنها تنظيم «داعش» منذ سنتين ضد أعدائه في الفضاء الافتراضي، وعلى وسائل الاتصال الاجتماعية، وتحولت الى سلاح فاعل فشلت حتى الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها في هزيمته إلكترونياً على رغم تسخيرهم جيشاً كاملاً من الخبراء والاختصاصيين في علوم الحرب السيبرنيطيقية، وإنفاقهم ملايين الدولارات ليس لتحجيم تأثيراتها الكارثية فحسب، بل ولتدمير وتصفية الأدوات والوسائل التي يستخدمها التنظيم بنجاح حتى الآن في جذب المؤيدين والأنصار وتجنيد المقاتلين وجمع التبرعات والموارد المالية.
يستخدم داعش في حربه الإلكترونية مئات من المتطوعين من مالكي الخبرات في التقنيات العالية، ومئات من الهاكرز الذين تمكنوا من قرصنة المواقع الأميركية الحكومية وروابطها في وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك اختراق موقع القيادة المركزية للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، وهو هجوم أعقبته سلسلة كبيرة من الهجمات تميزت بكونها أقل أهمية، كما وتم اختراق قاعدة بيانات وزراة الدفاع (البنتاغون) التي تحتوي على المعلومات الشخصية لحوالى 1400 موظف عسكري ومدني.
هذا الهجوم امتدّ الى دول كثيرة حيث نجح القراصنة في اختراق عناوين البريد الإلكتروني لمسؤولين كبار في الحكومة البريطانية، إلا أن العملية الأهم التي لاقت صدى واسعاً في العالم حدثت في نيسان (أبريل) من العام 2015، بتوجيه داعش ضربة قوية لقناة ( تي في 5) الفرنسية، ونشره رسالة على حسابها في «فايسبوك» تقول: «الخلافة السيبرانية تستمر في جهادها ضد أعداء تنظيم الدولة الإسلامية». الحكومة الفرنسية وصفت الهجوم بأنه «عمل حقير وجبان» ويستهدف حرية التعبير. وأعلن إيف بيجو، مدير المحطة، «أن الهجوم تسبب في توقف بث 11 قناة في صفة موقتة، كما أصاب مواقع تابعة لها على الإنترنت بما في ذلك حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي».
هاكرز جهادي – عملية روسية
تعاملت الإدارة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون مع هذا الاختراق الخطير بجدية، وسارعوا الى حشد قدرات أجهزتهم الاستخبارية وتعبئتها لمتابعة تحركات التنظيم على الشبكة، وارتفع منسوب مخاوف الدول الغربية مع ظهور معلومات عن قيام مجموعات من الهاكرز منفصلة عن بعضها البعض في دول متفرقة تدعم «داعش»، بالاندماج وتشكيل منظومة مشتركة، وإعلان خطة بتوسيع الخلافة السيبرانية. وفي رأي الخبير البريطاني في شؤون التجسس والإرهاب جون شيندلر، «فإن تجمع هاكرز من الجهاديين من دول متعددة في منظومة موحدة يمكن أن يتحول الى خطر وتهديد إلكتروني هائل».
وفي مواجهته هذا الخطر الجديد، بدأ البنتاغون حرباً إلكترونية حقيقية ضد داعش استخدم فيها وسائل وأدوات مختلفة، من بينها هجمات تشنّها القيادة السيبرنيطيقية الأميركية ضد وسائل اتصالات التنظيم في محاولة لتقويض النشطاء في وسائط التواصل الاجتماعي، والهاكرز الداعشي. ولم تقتصر إجراءات البنتاغون على محاربة التنظيم على الإنترنت، أو وسائل التواصل الاجتماعي، بل تعدتها الى الفعل القتالي باستخدام طائرة (الدرون) من دون طيار في قتل وتصفية الجهادي البريطاني من أصول باكستانية جنيد حسين، الذي يعتبر الهاكرز الأبرز في التنظيم وزعيم جناح (الخلافة الإلكترونية). وفي بريطانيا، كان ضمن «فريق السم» الذي اخترق دفتر عناوين رئيس الحكومة الأسبق توني بلير.
ذكر تقرير نشرته صحيفة «ذا أوبزرفر» البريطانية، أن «الاستخبارات الفرنسية توصلت بعد دراسة مكثفة وتحليل دقيق لتحركات التنظيم في العالم الافتراضي عقب الهجوم على قناة (تي في 5)، الى استنتاج خطير هو» أن منفذي هذا الهجوم ليست لديهم أية صلات أو روابط بداعش، بل هم جزء من مجموعة قراصنة (هاكرز) معروفة بارتباطها بالكرملين، وتحديداً المجموعة ذائعة الصيت والشهرة التي تُعرف باسم (آرت 28)، والتي تعتبر وفق كثر من خبراء الشؤون الأمنية سلاح روسيا السري. ويقول شيندلر الذي عمل سابقاً في الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة التجسس البريطانية، ويدرس الآن في معهد (War college)، أن ما يعرف باسم (الخلافة السيبرانية) هو في الحقيقة «عملية استخباراتية روسية تتبع في عملها نظاماً يسميه الجواسيس «الصلة»، ويعني شخصية يعرفها العميل وحده، وفي الغالب لا يعرف من هي الجهة التي يعمل لها، وهذه الرابطة أو الصلة من السهل قطعها من دون أن تخلف أي أثر يقود إليها في المستقبل، وهو ما يعرف بالإنكليزية بتعبير( cut-out).
الوكالة الوطنية الأميركية للأمن القومي التي تتعامل مع القرصنة والتجسس الإلكتروني، استنفرت هي الأخرى أجهزتها المتخصصة لتتبع مصدر الهجمات الإلكترونية بالتعاون مع (CYBERCOM) التي تعد من كبريات الشركات العالمية الاستشارية (IT)، وهي متخصصة في مجالات التجسس الإلكتروني، وتوصلت الى استنتاج مماثل للاستخبارات الفرنسية وهو «أن روسيا هي التي تقف وراء كل هذه الهجمات التي تشنّها مجموعة الهاكرز الروسية الشهيرة (Art28). وفي تقرير للخارجية الأميركية صدر في أواسط العام الماضي 2015، استنتاجات تؤكد أن الهجمات الإلكترونية الجهادية تمثل في جوهرها تهديداً جدياً، إلا أنه على رغم أن الخلافة السيبرانية تحدد بوضوح دعمها لتنظيم داعش، لم يتم العثور على أي أدلة تقنية وأي مؤشرات أخرى من شأنها تأكيد أن الخلافة السيبرانية ترتبط بالتنظيم».
وحدة «آرت 28» السيبرانية
في السياق، ذكرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية «أن أجهزة مكافحة التجسس الألمانية وبعد دراسة وتدقيق ومتابعة عميقة لجوهر سياقات الهجمات الإلكترونية وشكلها، توصلت الى أن ما يسمى الخلافة السيبرانية هو في الحقيقة عملية روسية سرية». ووفقاً لتقييمات الأجهزة الاستخباراتية الألمانية، فإن لدى روسيا 4 آلاف هاكرز يعملون في وكالة الأمن القومي وجهاز الاستخبارات العسكرية، ووكالة الاستخبارات الخارجية والدائرة الفيديرالية للأمن.
ووفقاً لما ذكره الموقع الإلكتروني «نوفوستي أونلاين.إينفو» بالروسية، فإن «ART28 هي تسمية تطلق على وحدة هاكرز ترتبط مباشرة بالكرملين، مهماتها تتمثل في القرصنة والتجسس السياسي والجيوبوليتيكي، وتستهدف مباشرة الحلف الأطلسي والبيانات السرية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إضافة الى بيانات ومعلومات دول القوقاز وجيورجيا وأذربيجان وأرمينيا». ويقول شيندلر: «الروس يعدون الأوائل وفي مقدمة من ابتكر القرصنة والتجسس تحت علم أجنبي، وهم في هذا المعترك التجسسي منذ أكثر من قرن»، ويضيف: «الكرملين يعتبر هذه المسألة طبيعية وتنطوي على عنصر أساسي يدعى الاستفزاز – ويقضي باستخدام الجواسيس وعملائهم بهدف بلورة وإنتاج أوضاع ونتائج سياسية سرية تخدم مصالح روسيا وتتسبّب في أكبر قدر من الأضرار لأعدائها وخصومها في أي مكان في العالم».
ويجمع خبراء الأمن على أن فكرة تفيد بأن الرئيس بوتين هو من أعطى الضوء الأخضر لأجهزته الاستخباراتية لشن هجمات إلكترونية ضد الغرب تحت غطاء داعش، لا يمكن أن تشكل مفاجآة صادمة لأولئك الذين يعرفون فنون التجسس الروسية التي، وفق الروس، ترتبط بنظرية المؤامرة. وفي رأي شيندلر «فإن الشيء الوحيد الجديد في الحدث هو العنصر الإلكتروني، وكل ما عداه يدخل في دائرة أو إطار أسلوب يتبع منذ قرن كامل من «الدروس العلمية» في العمل التجسسي الروسي».
ويتابع: «هذه ليست إلا بعض الأمور السرية التي تدرب عليها بوتين وطبقها عندما كان ضابطاً في الكي جي بي»، وكــما يقول الروس أنفسهم: «لا يوجد عملاء أو وكلاء سابقون في الاستخبارات».
في الأشهر الأولى من رئاسته في العام 2009، تلقى الرئيس أوباما ومستشاروه الأمنيون تحذيراً من الأجهزة الاستخبارية الأميركية مفاده «أن برنامج روسيا (السيبرنيطيقي) هو الأقوى لخرق شبكة الكومبيوتر الأميركية»، فهو كما أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر في 30 حزيران (يونيو) الماضي، «البرنامج الأقدم ويجمع مقاربة متأنية ومتعددة الفروع العلمية الى عمليات شبكية كومبيوترية». وفي منتدى أسبين الذي عقد الشهر الماضي، قالت مستشارة الرئيس أوباما للشؤون الأمنية ليزا أوموناكو: «إن الإدارة قد تقول كلمة الفصل حول ما إذا كان النظام الانتخابي الأميركي «بنية تحتية حيوية وحساسة» شأن شبكة الطاقة أو الهاتف أو الهاتف الخلوي أم لا»، وأضافت: «هذه المسألة جدية»، ونبّهت الى «أن بلادها تحتسب ما يترتب على الرد من من تصعيد خطير أو سوء تفسير، وأن البيت الأبيض سيرد». وقال المحلل الأميركي ديفيد إي سانجر: «إن كل يوم يحمل جديداً في تحويل القوة السيبرنيطيقية الى سلاح».