اكتسبت الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل مؤخراً زخماً غير مألوف. لم يفت مغزى هذه الظاهرة على المعنيين بمستقبل إسرائيل وبمسألة الصراع العربي-الإسرائيلي، فهذه الظاهرة سمحت لجون كيري، وزير الخارجية الأميركي، أن ينبه الزعماء الإسرائيليين إلى مغبة الاستمرار في تنفيذ مشاريع الاستيطان وفي عرقلة محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية. وهذه الظاهرة دفعت يئير لابيد وزير المالية الإسرائيلي إلى تحذير باقي أعضاء الحكومة من خطورة حملة المقاطعة، فالمقاطعة تقف اليوم على «شفير الانتقال من أطراف الحياة العامة في المجتمعات الغربية إلى القلب منها». إذا صح هذا التقدير وولجت المقاطعة «المجرى الأساسي» للحياة العامة، لبات من الصعب إخراجها منه ولتحولت إسرائيل إلى كيان معزول دولياً، كما حل بنظام «الأبارتايد» في جنوب أفريقيا. عندها لا تكون الخسارة محدودة، ولا تحسب بالدولارات الأميركية، بل سوف تصبح شاملة وتحسب بعملة المصير الإسرائيلي.
يميل أكثر المسؤولين الإسرائيليين إلى اعتبار هذه الآراء والتحذيرات من قبيل المبالغة، فالدعوة إلى المقاطعة ليست جديدة، وإنما هي قديمة قدم الكيان العبري، بل إنها سبقت إعلان هذا الكيان. ولقد خاض الإسرائيليون والمنظمات الصهيونية معارك مشهودة ضد تحركين للمقاطعة، فتكونت لديهم خبرة غنية بأسلوب محاربة المقاطعة والمقاطعين.
خاضت المنظمات الصهيونية معركة ضد واحدة من هذه الدعوات في مطلع عام 1933، ففي ذلك العام وصل النازيون إلى السلطة في ألمانيا وبدأوا تطبيق إجراءاتهم العنصرية ضد اليهود. رداً على ذلك، دعت منظمات يهودية ألمانية ودولية جنباً إلى جنب مع أحزاب وتجمعات ديموقراطية وليبرالية وتقدمية إلى مقاطعة الحكومة النازية وإلى العمل على إخراجها من الحكم.
كان من المتوقع أن تنضم المنظمات الصهيونية إلى هذه الحملة، ولكنها لم تفعل ذلك. على العكس من هذه التوقعات، اتجه زعماء هذه المنظمات إلى مد يد التعاون مع الهتلرية. علّل الزعماء الصهاينة موقفهم هذا، كما جاء في مذكرة قدموها إلى هتلر، بالمبادئ المشتركة والقيم المتماثلة التي تجمع النازية والصهيونية. وبالطبع كان من المشتركات بين الطرفين الاقتناع بأهمية نقل يهود ألمانيا وأوروبا إلى خارج القارة. ولقي الموقف الصهيوني رد فعل إيجابياً لدى الهتلريين، بحيث تم التوصل بين الجانبين إلى معاهدة «التسفير» التي تضمنت برنامج التهجير المنهجي لليهود الألمان إلى «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين.
إلى جانب تهجير اليهود الألمان إلى فلسطين، فقد تضمن اتفاق «التسفير» أيضاً تحديداً للدور الذي سوف يلعبه المهجرون في الترويج لصادرات ألمانيا الهتلرية. ولم يقتصر هذا الدور على ترويج صادرات ألمانيا الهتلرية في فلسطين فحسب، وإنما أيضاً، وبمبادرة من المسؤولين الصهاينة والنازيين عن «التسفير» واقتراح منهم، في الأسواق العربية المجاورة، وخاصة مصر والعراق. في إطار هذا الاتفاق أيضاً، اضطلعت هيئات مشتركة نازية- صهيونية في التحرك النشيط ضد حركة المقاطعة الدولية لألمانيا الهتلرية، واكتسب الصهاينة خبرة من خلال الاشتراك في هذا التحرك، خاصة لجهة أهمية شق المنظمات العاملة في المقاطعة، وهو ما استحق تنويه الإدارات الهتلرية المعنية بحملة مكافحة المقاطعة. وكان لهذا الموقف الأثر المهم في الحيلولة دون اتخاذ المؤتمرات التي نظمتها حركة المقاطعة مقررات فعالة، ومن ثم في وصولها إلى طريق مسدود.
وخاضت المنظمات الصهيونية معركة ثانية ورئيسية ضد المقاطعة العربية لإسرائيل، فلقد حاربت المنظمات هذه المقاطعة بكل وسيلة، حاربوها بصورة مباشرة وحققوا نجاحاً ملحوظاً عندما حظرت السلطات الأميركية المقاطعة العربية بجميع أوجهها خلال منتصف السبعينات، وتضمنت القوانين التي أصدرتها بهذا الصدد عقوبات صارمة وفادحة على من يطبقها. كذلك اكتسب الصهاينة خبرة مهمة هنا حول الأساليب غير المباشرة في إضعاف المقاطعة والحد من آثارها على الاقتصاد الإسرائيلي، استناداً إلى هذه الخبرة اتجهت الحركة الصهيونية إلى تعطيل أي شكل من أشكال التعاون الإقليمي بين الدول العربية. قاومت تأسيس مركز تموين الشرق الأوسط خلال الأربعينات، الذي أخذ على عاتقه، ولمصلحة الحلفاء، التنسيق الاقتصادي بين الدول العربية. كما قاومت الحركة الصهيونية، إلى جانب فاعلين دوليين آخرين، أيضاً قيام جامعة الدول العربية وسائر المشاريع اللاحقة لتفعيل الجامعة وتنمية التعاون الاقتصادي العربي. وبحكم خبرة الصهاينة في العلاقات الدولية، فإنهم كانوا يعلمون أنه «ما دامت التجارة البينية العربية محدودة، وما دامت الاستثمارات العربية العابرة للدول والأقطار العربية ضئيلة، فان المقاطعة العربية لن تؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي»، كما جاء في دراسة أعدها مارتن وايس في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الفائت.
خلافاً لهذه المعارك التي خاضها الصهاينة وإسرائيل في أوروبا والمنطقة العربية، فإن المعارك التي خاضها مؤيدو «الأبارتايد» في جنوب أفريقيا انتهت إلى الفشل. فماذا تقول هذه التجارب؟ كيف يمكن تفسير نجاح الصهيونية في أوروبا والبلاد العربية وإخفاق العنصريين البيض في جنوب أفريقيا؟ وهل يكون مصير حملة المقاطعة الدولية الراهنة مشابهاً لمصير الحملات ضد الهتلرية والصهيونية في السابق؟ أم يكون مصيرها مشابها للحملة الدولية ضد «الأبارتايد»؟
هناك تفسيرات كثيرة يمكن الرجوع إليها هنا، ولكن أهمها أن العامل الحاسم في الصراع بين العنصريين والديموقراطيين كان وجود شريك دولي قوي للصهيونية انتزع من طريقها العقبات التي تحول دون تحقيق أهدافها. تمثل هذا الشريك في الماضي بألمانيا الهتلرية التي قضت على اليهود الاندماجيين، وكانوا ولا يزالون حتى الآن التحدي الأكبر للحركة الصهيونية. وتمثل منذ منتصف الخمسينات في الإدارة الأميركية التي ساندت الإسرائيليين ضد أي تحرك هدد شرعية كيانهم أو أثر على أوضاعهم الاقتصادية أو حدّ من جبروتهم العسكري والأمني. بالمقابل، فإن «الأفريكانر» من مؤيدي نظام «الأبارتايد»، لم يتمكنوا من بناء تحالف من هذا النوع مع أي قوة دولية، سواء كانت الولايات المتحدة أو ألمانيا الهتلرية أو غيرها من القوى الأوروبية الكبرى.
إن الزعماء الإسرائيليين شديدو التمسك بهذا الدرس، فيما هم يعالجون مسألة المقاطعة الدولية لإسرائيل. لقد خصصوا ثلاثين مليون دولار لتمويل حملة مضادة للمقاطعين، وبدأوا في تحريك المنظمات الصهيونية لشن حملات سعار مألوفة من الشتائم والتهديدات والضغوط على المشاركين في المقاطعة. ولكنهم في نهاية المطاف سوف يلجأون، كما اقترح سفير إسرائيل السابق إلى واشنطن مايكل أورين، إلى أصحاب القوة والقرار طلباً للنجدة. هؤلاء موجودون في الكونغرس الأميركي، وعليهم -كما أوضح أورين- أن يصوغوا المزيد من القوانين التي تحمي إسرائيل من النقد ومن المعارضة ومن الضغط. فهل من دور للفلسطينيين وللعرب في حماية حملة المقاطعة من يد الكونغرس البتارة؟
إن الفلسطينيين يستطيعون أن يقوموا بدور مهم إذا رتبوا أوضاع البيت الفلسطيني، فعجلوا في تحقيق المصالحة الوطنية وأجروا الانتخابات الفلسطينية المعطلة ونزلوا عند أحكام الناخب الفلسطيني لا غير. إن ترتيب البيت الفلسطيني سوف يكون مدخلاً مناسباً لترتيب البيت العربي لأن القضية الفلسطينية، هي التي تفرق العرب وهي التي تجمعهم. هكذا كانت، وهكذا ستبقى.