صور من أرض المقاومة الحزينة معرض لأعمال عاطف الصفدي
بقلم: منير فخرالدين – نيو يورك
تستضيف في هذه الآونة جالاري الموقع الالكتروني لمركز فاتح المدرس معرضا مؤثرا
وآسرا لنخبة من صور الزميل عاطف الصفدي. في هذه النخبة يقدم الزميل عاطف نموذجا عن
أسلوبه الذكي في قراءة الرمز السياسي. فهو لا يلاحق الرموز ويضعها في إطار عدسته
بشكل معبر فحسب، إنما يقوم بإنتاج رموز جديدة يصنعها من الهامش الاجتماعي ويقابل
بها الرموز السائدة ندّا بالنّد: كحذاء مقاتل فلسطيني مطلي بالدماء على جدار حديقة،
مقابلة برمز المقاومة البائسة؛ وصورة قدمي الشهيد؛ وتجاعيد ملامح امرأة متقدمة
بالسن تعكس وجه التراب؛ والبؤساء والنساء والمآتم.
من صورة الحذاء الدامي الذي كأنما أصبح رمزا جديدا لأرض المقاومة الحزينة، إلى
مشاهد المقاومة المجبولة بالرموز المقدسة، المحتفية بنصرها المبين وإن كان معلقا أو
مؤجلا لحين، يلتفت المصور-الصحافي إلى بؤس الحياة الفلسطينية التي قطعت أواصلها آلة
الدمار الإسرائيلية وجغرافية الاستيطان.
في صورة ملحمية بالغة الأسى يستنشق حشد من الفلسطينيين—نساء ورجالا، فتيانا
وفتيات—غازات السم الإسرائيلي وينحنون نحو التراب، يلتصقون بالأرض، لتحميهم فيحمون
أرض الزيتون الكريم. إن المشهد المؤثر للدفاع عن الأرض في هذه الصورة، هو مشهد قديم
لكنه الآن مقترن بأوسلو. فقد ابتدأت الحملات الإسرائيلية المسعورة لسلب الأراضي منذ
عام 1993، من أجل شق الطرقات الالتفافية وتوسيع المستوطنات وذلك، مفارقة، في ظل
تقدم علمية التفاوض من أجل السلام، وهي اليوم مستمرة من أجل بناء جدار الفصل
العنصري وقرصنة الأرض.
هذه الصورة توثق لتفاقم قومية أنانية عمياء لا ترى سوى ذاتها، كما وصفها المؤرخ
الفلسطيني وليد الخالدي. لكنها توثق أيضا لملحمية الصمود الشعبي في وجه قوة مبجلة
بكل تعاويذ الرياء والاستعلاء القومي والعرقي في السياسية الامبريالية للغرب، منذ
مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 حتى واشنطن اليوم.
إن مشروع الزميل عاطف هو انجاز هام ليس على صعيده الشخصي فحسب، أنما على صعيد
نهضتنا المحلية في واقع احتلال واستعمار مشابه بجوهره للواقع الفلسطيني وإن اختلف
في بعض تفاصيله. فهذا المشروع الشخصي يبني على إرث جمعي منذ عام 1982. في تلك
الفترة بدأ التصوير الفوتوغرافي المحلي يؤدي دورا جديدا لم يعرفه من قبل: وهو
التوثيق للحدث السياسي-الاجتماعي.
إن التاريخ الاجتماعي للتصوير عامة موضوع شيق بحد ذاته: فقد كانت الصورة في
بداياتها في منتصف القرن التاسع عشر تقوم بدور البورتريت الشخصي لأحد أفراد
العائلة، ثم ما لبثت أن استعملت ضمن التحقيقات الجنائية وفي بطاقات التعريف أو
الهوية، إلى أن دخلت في بدايات القرن العشرين مضمار الصحافة والدعاية السياسية
والفن، ومن ثم أصبحت ممارسة شخصية ذات شعبية وانتشار واسعي النطاق.
عرف مجتمعنا المحلي صورة الهوية منذ الانتداب الفرنسي فيما أعتقد، ومنذ الخمسينات
بدأت تنتشر عادة بين الشبان في ارتياد الاستوديوهات في دمشق والقنيطرة لأخذ الصور
التذكارية، وكانوا يعودون من الخدمة العسكرية مع صورهم كجنود. وقد دخلت أول كاميرا
إلى المنطقة وافتتح أول أستوديو في مجدل شمس في بداية الستينات. في السبعينات بدأ
العديد باقتناء الكاميرات الشخصية، وبدأت العائلات تحتفظ بألبوماتها الخاصة، وهذه
باتت في كل صورة منها كنزا يجب أن نحافظ عليه.
وفي حقبة الإضراب والحراك الجماهيري في الثمانينات بدأ مصورو استوديوهات مهنيون
وهواة بالانتقال بالكاميرا من إطار الحدث العائلي—إن كان العرس أو الصور التذكارية
وصور النزهات العائلية—إلى الشارع، حيث المظاهرة والاحتفال الوطني ومواجهة بوليس
الاحتلال، ليتركوا لنا إرثا عاما بالغ الأهمية ومثير لمشاعر الحنين. تلك كانت مرحلة
تحول جمعي على صعيد الوعي السياسي والاجتماعي، انعكس بين أمور أخرى بالتصوير
الفوتوغرافي. في التسعينات بدأت الجمعية العربية للتطوير بمشروع أرشفة للصور
الفوتوغرافية عن الحياة اليومية وكذلك لمشاهد القرى المدمرة في الجولان، عمل فيه
الزميل عاطف بين الأعوام 1995-1998، وباتت مواقع الكترونية محلية تعرض صورا لمشاهد
من الجولان تساهم في بلورة المخيلة المحلية للمكان، المناهضة للمخيلة الاستعمارية.
في الأعمال المعروضة في جاليري موقع فاتح المدرس لنا، كجمهور جولاني، مكسب مزدوج:
أوله، الجرأة في الانتقال بهذا الإرث الجمعي إلى مضمار المقولة
الاجتماعية-السياسية، جرأة تمزج بين العمل الفني والنقد الاجتماعي، تصر على الخروج
من دائرة الحنين ونظرة السائح وذاكرته اللا-سياسية التي تسقط من المشهد بشاعة
الاستيطان والعسكر! وثانيه، مركز فاتح المدرس الذي يرعى مثل هذه الأعمال ويلفت نظر
الجمهور إليها. ومركز فاتح المدرس، كإطار متخصص وعصامي بشكل يستحق الإعجاب، هو بحد
ذاته مساهمة نوعية في الإرث الثقافي المحلي.
إضغط
هنا لزيارة المعرض في موقع فاتح المدرس