ريتا..
كتبت:نبال شمس
عندما يأتي المساء وينام الأطفال في قريتي سأتسلل إلى مكتبتي واكتب كلماتي. كل
يوم أقول هذا في نفسي.عندما يأتي المساء سأعزف سيمفونية عذبه جميله اسميها هروب.
هروب, مؤقت من حاضري.. كم احبك أيها المساء كم أحب سوادك الهادئ الذي يبعث في نفسي
الراحة عندما انهض في الصباح أقول في نفسي هذا المساء سوف اكتب ما عندي.
اذهب للعمل فأعيد كلماتي. أعود وانتظر المساء. لكن مسائي لا يأتي وسمفونيتي ما زالت
بلا سلم موسيقي..
متى ستأتي أيها المساء الذي ابحث به عنك؟
عندما يأتي المساء سأتسلل إلى مكتبتي أمارس طقوس الهدوء ابحث عن ليل يحويني وصمت
أغوص في داخله.
عندما يأتي المساء سأقرأ الممنوع والمسموح, سأمارس صلاة لا يعرفها بشر, سأكتب حتى
ينتهي حبر قلمي. سأقرأ تشيكوف وبوشيكن. وابقي انتظر المساء. رغم انه يأتي لكني أبقى
انتظره ولا يأتي كرغبتي.
الليلة أتى المساء. وجدت سلمه الموسيقي. انه رموز وطلاسم لا اقدر على فكها, وجدت
الهدوء لكن ضجيج في داخلي كاد يدمرني. أحضرت قصص تشيكوف وبوشكين والممنوع والمرغوب.
لكني تحولت من قارئه ماهرة إلى متعسرة في فهم الحروف.
هذا المساء وجدت كل شيء, وتوفر لي كل شيء.. لكني لم أجد نفسي, فقد نسيتها في غرفة
طفلة تدعى ريتا,, ريتا الجميلة العذبة, لقد سرقت بضحكاتها مسائي, طقوسي وكتبي, حتى
سلمي الموسيقي كتبته هي بأناملها الصغيرة وجعلتني اعزفه بصورة مبهمة.
إنها ريتا, طفلة في السادسة من عمرها, صوت ضحكاتها ما زال بإذني. نغمات كلماتها
المبهمة, ما زلت اسمعها تقطع في داخلي. اقتحمت عالمها. حاولت أن أزوره معها.. مع
ركضها بين الأطفال, مع صراخها, مع صمتها ومع نظراتها إلى السماء. دنياها الجميلة
تخيلتها داخل نقوشها الرمادية ودوائرها الغليظة المرسومة على الورق.
اليوم يا ريتا انتظرت المساء من أجلك أنت. أيتها الجميلة الرائعة, نعم يا ريتا لو
كنت معي ألان لعزفت لك دون سلم موسيقي لقرأت لك دون كتاب لصليت من أجلك صلاة لم
يعرفها احد آه.. يا ريتا.. ماذا فعلت بي وبمسائي ونهاري وزماني, ماذا فعلت بأيامي؟
أي حزن استطعت رسمه على بياض أوراقي؟ كم حركت الإنسان الذي في داخلي؟
إنها ريتا, طفله متوحدة التقيت بها في مدرسة للأطفال المتوحدين. التقيت بها وإذ
بظلها يلازمني. أتى معي وبقي معي. وها هو ساهرا معي.
عندما دخلت للمدرسة شعرت إني بحاجة للبكاء.. للهروب.. بحاجة لذلك المساء الذي
انتظره.
دخلت وروحي تتخبط بين ضلوعي تصرخ وتستصرخ, تريد الدخول. تريد الرجوع, رجلاي تدخلان
وهي تقاتل لا تعرف على ماذا.
الآن أتذكرهم طفلا طفلا. أتذكر صراخهم وصمتهم وعصبيتهم وبكاءهم. أتذكر غياب النور
عن تلك البقعة.
أتى مسائي يا ريتا لكن سواده هذه المرة مظلم جدا جدا، لا أرى به سواك ولا اسمع به
سوى ضحكاتك. وأنت هناك يا ريتا لا تشعرين بي تنامين قريرة العين لأنك لا تفهمين ما
دار حولك. أنا أدرك انك عندما تنهضين غدا لن تتذكريني لأني لست من عالمك. حزني غير
حزنك فرحي غير فرحك. ما آلمني من أجلك لا يؤلمك.
لن تفهميني يا ريتا لو كتبت لك حتى الصباح لن تفهميني.
تسللي لمكتبتي هذه الليلة، لم يكن عاديا! صاحبه عنف أيقظ قلبي وشعوري. ذبحني
وقتلني. أبكاني بكاء حزينا مرا.
نامي يا ريتا. نامي قريرة العين. وأنا سأبقى هنا وحدي اعزف سيمفونيتي بسلمها
ورموزها وطلاسمها. فربما تصل لك أنغامها حبيبتي.