التّربيةُ أوّلاً
إعداد: المعلم نايف ابراهيم - 10\03\2007
هذهِ قصّةٌ قصيرةٌ مميّزةٌ , تعكسُ مدى أهميّةِ تفهُّمِ الآخرِ ومساعدَتِهِ ,
والْفائدةَ المْترتّبةَ على ذلكَ , فربَّ كلمةٍ تخلُقُ جبّارًا ! وأُخرى تحطّمُهُ !
وربَّ هديّةٍ متواضعةٍ , أرقى وأبقى من خزائنِ قارون !
في الْيومِ الأوّلِ منَ السّنةِ الدّراسيّةِ الْجديدةِ , دخلتِ المْعلّمةُ سارة
للصّفِّ الْخامسِ , رحّبتْ بالطّلاّبِ , وباركتْ عودتَهم للْمدرسةِ سالمينَ غانمينَ
قائلةً :" طلاّبيَ الأعزّاءَ إيّاكمُ والْكذبَ ! لأنّهُ قرين الشّرِّ وحليفُ
الْباطلِ ! فإنْ كانَ الْكذبُ يُنجي فالصّدقُ أنجى!واستطردتْ قائلةً:لقدْ قطعْتُ
لكمْ وعدًا وعلى نفسي عهدًا أنْ تكونوا جميعًا ناجحينَ محبوبينَ مباركينَ !متمنيةً
لكم عامًا حافلاً بالْفائدةِ والمْتعةِ لكنَّ المْعلمةَ لمْ تكنْ دقيقةً ! لا
بوعدِها ولا بعهدِها !فعندما كانَتْ تتفقّدُ الطّلاّبَ بأسمائِهم ويقعُ بصرُها على
شادي الّذي كانّ يجلسُ أمامَها , بثيابِهِ الرّثّةِ , وهندامِهِ المْهملِ ,
ونظراتِهِ الشّاردةِ الّتي كانت تنمُّ عنْ بؤسٍ ويأسٍ مزمنينِ,كانَتْ تتطيّرُ منهُ.
وتتحاشى النّظرَ إليهِ مباشرةً وأصبحَ اسمُهُ ثقيلاً على لسانِها وآذانِها وهكذا
أهملَتْهُ بنظراتِها وعباراتِها شيئًا فشيئًا .
كمْ كانتْ المْعلّمةُ سعيدةً ! عندما كانتْ تتصفّحُ دفاترَ الطّلاّبِ ووظائفَهم
بقلمِها الأزرقِ , حيثُ كانَتْ تكيلُ لهمُ المْديحَ , وتحرّكُ مشاعرَهم بعباراتِها
الْمشجّعةِ كممتازٍ ورائعٍ وإلى الأمامِ , لكنَّ نشوتَها لمْ تكنْ تكتملُ , إلاّ
عندما تتصفّحُ وظيفةَ شادي , وتدوّنُ بقلمِها الأحمرِ الْعباراتِ الْمحبطةَ ,
متفنّنةً بكلمةِ ضعيفٍ جدًا,جداً التي تؤذي النظر وتخدش الآذان .
ذاتَ يومٍ قرّرَتِ المْعلّمةُ أنْ تدو ّنَ ملاحظاتِها وتوصياتِها على شهاداتِ
التّقديرِ , فأخذَتْ تتصفّحُ شهاداتِ الطّلاّبِ للسّنواتِ السّابقةِ مرتّبةً شهادةَ
شادي آخرَ شهادةٍ , لكونِها غيرُ معنيّةٍ بهِ , وغيرُ قادرةٍ على بعثِ الْحيويّةِ
والْحياةِ فيهِ , فالاهتمامُ بهِ سيذهبُ سدًى , فهوَ في النّهايةِ لا محالةَ منَ
الرّاسبينَ , فتصفّحَتِ الشّهاداتِ شهادةً شهادةً بتمعّنٍ وإعجابٍ إلى أنْ وصلَتْ
إلى شهادةِ شادي.
لقدْ كتبَتْ معلّمةُ الصّفِّ الأوّلِ ما يلي:" شادي ولدٌ لامعٌ ذكيٌّ فاعلٌ فعّالٌ
, يعرفُ ما لهُ وما عليهِ , ممتازٌ بسلوكِهِ وتحصيلِهِ , فهوَ محطُّ أنظارِ وآمالِ
المْعلمينَ." فاستهجنَتِ المْعلّمةُ ما رأَتْ عيناها وما سمعَتْ أذناها , وتابعَتْ
ما كتبَتْ معلّمةُ الصّفِّ الثّاني:"شادي تلميذٌ مؤدّبٌ مثابرٌ على دروسِهِ , على
الرّغمِ منْ مرضِ أمّهِ , الّذي لمْ يقفْ حائلاً بينَهُ وبينَ تقدّمِهِ المْمتازِ
!" استغربَتِ المْعلّمةُ ذلكَ , وتابعَتْ ما كتبَتْهُ معلّمةُ الصّفِّ الثّالثِ:"
منذُ موتِ أمّهِ الّذي زادَ الطّينَ بلّةً والْقلبَ علّةً أصبحَ شادي مشوّشًا ,
يحاولُ جهدَهُ الْخروجَ منْ مأساتِهِ هذهِ , لكنّهُ حتّى الآنَ لمْ يستطعْ , فأخذَ
ذلكَ ينعكسُ على مجرى حياتِهِ , فغدا بائسًا يائسًا , حيثُ فقدَ صدرًا يسندُ إليهِ
رأسَهُ , ويدًا تباركُهُ , وعينًا تحرسُهُ !" ودونَ تعقيبٍ لا برأسهِا ولا بعينيها
ولا بشفتيها , تابعَتْ ما كتبَتْ معلّمةُ الصّفِّ الرّابعِ:" شادي تلميذٌ غريبٌ في
صفّهِ , يجلسُ وحيدًا شاردًا مهمومًا ! ثيابُهُ غيرُ أنيقةٍ , حقيبتُهُ بما فيها
غيرُ مرتّبةٍ , تحصيلُهُ في تراجعٍ مستمرٍّ . قدْ لا يستطيعُ النّجاحَ في نهايةِ
الْعامِ الدّراسيِّ."
عندَها أدركَتِ المْعلّمةُ أنّها أخطأَتْ في تقديرِها ! وأنّ عليها أنْ تُّكفّرَ
عنْ ذلكَ , وتتوسّمُ بشادي خيرًا فاستغفرت ربها! مُستلهمةً قولَ الشّاعرِ:
الـْيـتـيـمُ الـّذي يلـوحُ زريّـا | |
ليسَ شيئًا لو تعلمونَ زريـّّا | |
إنـّــهُ غـرسةٌ ستُطلِعُ يـومـًا | |
ثـمرًا طيـّبـًا وزهـرًا جنـيـّا | |
ربـّّمـا كانَ قـدْ أودعَ اللهُ فيهِ | |
فـيـلسوفًـا أو شاعرًا أو نبيّا | |
إنّ هذا الطّفلَ الصّغيـرَ ملاكٌ | |
كيفَ ترَضونَ أنْ يكونَ شقيّا |
ومنذُ ذلكَ الْيومِ قرّرَتْ ألاّ تكونَ مجرّدَ معلّمةٍ , بلْ
مربيةً تعلّمُ , وترشدُ , وتُغني طلاّبَها بالإرادةِ ومكارمِ الأخلاقِ! وهكذا
بدأَتْ تضاعفُ اهتمامَها بشادي الّذي رأى ذلكَ كيدٍ منْ خلالِ المْوجِ مُدَّتْ
لغريقٍ , فراحَتْ تعلّمُهُ , تُرشدُهُ وتدقّقُ أخطاءَهُ بهدوءٍ ولطفٍ . وكثيرًا ما
كانَتْ تستبقيهِ في الْفرصِ , لتأخذَ بيدِهِ منْ جديدٍ.
في نهايةِ الْعامِ الدّراسيِّ , أحضرَ الطّلاّبُ كالْعادةِ هدايا لمعلميهم , وقدْ
تفنّنوا في توظيبِها وترتيبِها , للدّلالةِ على مراتبِهم , ومدى حبّهم وتقديرِهم
للمعلمينَ ! لكنَّ هديّةَ شادي كانَتْ مختلفةً كلَّ الاختلافِ عمّا سواها ! فقدْ
كانَتْ مغلّفةً بورقٍ منَ جرائدَ مُستهلَكَةٍ ! الأمرُ الّذي جعلَ الطّلاّبَ
يقهقهونَ ساخرينَ ! لكنَّ المْعلّمةَ سرعانَ ما وضعَتْ حدًا لذلكَ ! وقبلَ أنْ
تعرفَ ما تحتويهِ تلكَ الأوراقُ قالَتْ :" إنَّ هذهِ الْهديّةَ أرقى وأبقى عندي منْ
أيِّ هديّةٍ سواها ! ففتحَتْها أوّلاً , وأخرجَتْ منها قُصاصةَ ورقٍ كُتِبَ عليها :
معلّمتي الْمحترمةَ ! أرجو أنْ تقبلي هديّتي المْتواضعةِ هذهِ !كعربونِ محبّةٍ
واحترامٍ وتقديرٍ, فالْعينُ بصيرةٌ , والْيدُ قصيرةٌ , وإنَّ الْهدايا على مقدارِ
مُهديها ! لو كانَ يُهدَى إلى الإنسانِ قيمتُهُ لكنْتُ أُهدي لكِ الدّنيا وما فيها
ثمَّ أخرجَتْ سوارًا قديمًا مزيّنًا بخرزٍ تقليديٍّ , قدِ انفرطَ بعضُهُ , ثمَّ
زجاجةَ عطرٍ , قدِ استُهلِكَ معظمُهُ. عندها بدَتْ علاماتُ الرّضى والارتياحِ على
محيّاها !فقدْ سرى بينَها وبينَهُ تفاهمٌ خفيٌّ ! لا يدركُهُ إلاّ مَنْ يحملُ في
صدرِهِ قلبًا كبيرًا ينبضُ بالرّقّةِ والرّأفةِ والْغفرانِ! فنادَتْهُ , وشكرَتْه
,ُ وطلبَتْ منهُ أنْ يُقلِّدَها ذاكَ السّوارَ في معصمِها ! ثمَّ أخذَتْ زُجاجةَ
الْعطرِ , ووضعَتْ على عُنُقِها قليلاً منهُ .
عندما انصرفَتِ المْعلّمةُ منَ المْدرسةِ عائدةً إلى بيتِها , وجدَتْ شادي ينتظرُها
أمامَ الْبابِ , فسألِتْهُ عنْ سببِ ذلكَ فأجابَها :" جئْتُ لأشكرَكِ ! لأنّكِ
أعدْتِ لي روحي ! فقدْ لمسْتُ بيدِكِ يدَ أمّي الْحنونة!ِ- رحمَها اللهُ- ورأيْتُ
فيكِ: عطفَها ولطفَها وحنانَها ! واستروحْتُ منكِ أنفاسّها الْعطرةَ ! فغمرَتْني
نشوةٌ عامرةٌ بالْحبِّ والأملِ والانعطافِ!فما بعدَ الْيومِ همِّي ! إذ عنْ يميني
أمِّي ! فاغرورقَتْ عينا المْعلمةِ بالدّموعِ ! وطبعَتْ قبلةً حارّةً على جبينِهِ
قائلةً:" يُشرّفُني أنْ يكونَ لي ولدٌ مثلُكَ يا شادي".
بعدَ عدّةِ أيّامٍ منْ توزيعِ الشّهاداتِ , وبعدَ حصولِهِ على المْرتبةِ الثّالثةِ
في طبقتِهِ , أرسلَ شادي إلى معلّمتِهِ رسالةً جاءَ فيها:"سلّمَ اللهُ يديكِ ,
وباركَ عليكِ , وجزاكِ عنّي خيرًا ! لقدْ كنْتِ لي أمًّا ومعلّمةً في آنٍ واحدٍ ,
ففتحْتِ في وجهي أبوابَ الرّجاءِ! ومسحْتِ على جَوايَ بيدِ الْعزاءِ!فلكِ الْحمدُ
بعدَ حمدِ إلهي ولكِ الشّكرُ في مدى الأيّامِ.
بعدَ ثلاثِ سنواتٍ , كُرِّمَ شادي بشهادةِ تقديرٍ وامتيازٍ على تحصيلِهِ ومسلكِهِ !
فأرسلَ لمعلّمتِهِ رسالةً جاءَ فيها:" كلُّ الشّكرِ والتّقديرِ على ما قدّمْتِهِ لي
منْ دعمٍ وتشجيعٍ ! فأنعشْتِ ملكاتي المْعطّلَةَ ! وأكسبْتِني ملكاتٍ جديدةً
زادَتْني عزمًا وحزمًا وتصميمًا".
بعدّ أربعِ سنواتٍ , تسلّمَتْ معلّمةُ شادي رسالةً وفيها:" لقدْ تخرّجْتُ منَ
الثّانويّةِ الْعامّةِ بالْمرتبةِ الأولى ! وهذا عائدٌ لأمانتِكِ على رسالتِكِ
وشرفِ مهنتِكِ ! فبالرّغمِ منْ مرورِ الزّمنِ , ما زالَ صدى كلماتِكِ وهمساتِكِ
المْخلصةِ يرنُّ في أذني ! فكيفَ أنسى كلماتٍ وجّهَتْني وعلّمَتْني التّطلّعَ دومًا
إلى الأفضلِ والأمثلِ".
وبعدَ عدّةِ سنواتٍ , تسلّمَتِ المْعلّمةُ رسالةً وفيها:" لقدْ مرَّ عليَّ الْكثيرُ
منَ المْعلّمينَ والمْعلّماتِ , فرأيْتُ أنَّ منْهُم مَنْ يعملُ لكسبِ المْالِ ,
ومنْهُم مَنْ يعملُ لكسبِ الْجاهِ , ومنْهُم مَنْ يعملُ بكلِّ جدّيّةٍ ومسؤوليّةٍ
لبناءِ الإنسانِ ,بالْعلمِ والإيمانِ والإيثارِ! والإنسانُ منطلقُ الْحياةِ وغايةُ
الحياةِ ! وأنتِ في طليعةِ هؤلاءِ يا معلّمتي الْمحترمةَ ! فما سمعْتُ ولا رأيْتُ
معلّمةً أرحبَ صدرًا وأطهرَ قلبًا وأنزهَ فكرًا منكِ ! وظنّي أنّني لنْ أرى".
باحترام :الدّكتور شادي
عندًها أرسلَتِ الْمعلّمةُ للدّكتورِ شادي الْجوابَ التّاليَ :" كلاّ يا عزيزي
وألفُ كلاّ !فلا شكرَ على واجبٍ مقدّسٍ! فأنتَ أجدرُ منّي بالشّكرِ والتّقديرِ !
لأنّكَ منحْتَني ْفرصةً ثمينةً , وتجربةً فريدةً , غيّرَتْ مجرى حياتي ! إذ
علّمَتْني كيفَ أكونُ معلّمةً ومربّيةً , بل معلّمةً وأمًّاً في آنٍ واحدٍ ! وأنّ
المْرءَ بأصغريهِ :قلبِهِ ولسانِهِ ! وأنَّ الْكلمةَ الطّيّبةَ صدقةٌ ! تُخرجُ
الأفعى منَ الْوكرِ ! وربَّ كلمةٍ تخلُقُ جبّارًا ! وأُخرى تحطّمُهُ".
باحترام:المعلمة سارة
إعداد المعلم نايف إبراهيم