لا إصغاء للذات ...
لا إصغاء للآخر :
ماجدة الحلبي \ المرعي - 6-7-2007
قالت لي أماندا في نهاية الأمسية الموسيقية : "لقد
تدرّبتُ طويلاً طويلاً.. لكن قسما من الجمهور خيّب أملي", فقلت لها : "أتنشدين
الكمية أم النوعية؟", فابتسمت خجولة ولم تبدِ تعليقا.
لربما ليس إلى ما فهمتُ أنا هي رَمـَتْ!!!
حينئذ انقبض شيء في صدري وقررت الكتابة!!!
رامي، ناجي، علي , عروة، علاء، شادي , عمرو، ربيع, دعاء, يزن , أيمن , أماندا ,
لورين !!! يستوقفني سؤال: من أجل من تتعلمون دروسا في الموسيقى , ولأجل ماذا ؟
هل من أجل حلم غضّ فتـّي , تترجم من خلاله عبقريتكم التي قد أدركتموها يوما ؟ أم
لأجل نهضة فنية وثقافية ذات معنى تنشدونها في مجتمعنا , وبالتالي تؤثرون وتتأثرون
بردود الفعل واستجابات الجمهور؟ أم الاثنان معا ؟؟ .
أتعزفون لحنا يمتـّعكم و"يــُحتمل " أن يمتـّع أصدقائكم الذين أتوا " ليشاهدوا "
..." لا ليصغوا" .. كيف ستكون وقفتكم على المسرح !! أو ماذا سترتدون !!! من أي
ماركة وأي تصميم ستختارون ثيابكم ؟؟ هل سيبدو عليكم التوتر قليلا – وهذا شرعي
وطبيعي – فتكون مناسبة مثالية لإبداء التعليقات المكتومة , الهمسات المخبوءة
والضحكات المخنوقة والتي تثير الاشمئزاز أكثر مما تسلـّي !!!! ؟؟؟؟؟؟؟
أم تعزفون لحناً ليحرك فينا وفيكم حقيقة أصيلة , كنتم قد ألقيتم الضوء عليها ,
واكتشفتموها في داخلكم , فقررتم رعايتها , تطويرها وتنميتها , كونكم أدركتم قيمتها
الكبيرة وأدركتم أنها وحدها فقط ستخوّلكم من ملامسة الحقيقة في نفوسكم النقية ,
ووحدها فقط ستمنحكم المعنى الذي تعيشون لأجله , بينما أصدقائكم " البسطاء " لم
يلامسونها بعد , لم يدركونها ولم يكتشفونها على الإطلاق ؟؟؟
لا أريد التعميم هنا , لكنهم في غالبيتهم – أي أصدقائكم – في هذه الأمسية (الأمسية
الموسيقية للطلاب المتقدمين لدى المعلم أليكس برنر بتاريخ : 6/7/07) جاءوا لا
ليصغوا إليكم وإنما ......... لا أعرف في الحقيقة لماذا جاءوا , عليهم هم , حين
يقرؤون هذه الكلمات , أن يجيبوا عن هذا السؤال : ما الذي أتى بكم , في حين لا
تريدون الإصغاء؟؟؟
في حين لا تملك قدرة وملكة الإصغاء , لماذا تأتي لحضور أمسية موسيقية تتطلب منك حدا
معينا من التركيز والإصغاء وإفساح المجال للآخرين بأن يتمتعوا بالإصغاء لمعزوفاتٍ
بذل الطلاب ويبذلون , منذ ستة أشهر , أقصى ما بوسعهم من إمكانات , جهود , تعب ,
مثابرة ومواظبة , دون كلل , لكي يصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم في هذه الأمسية ؟؟؟
هنا يطرح سؤال آخر نفسه !!
ما معنى " صديق " ؟؟
أهو الذي يسـلـّيني في مللي ؟؟ أهو الذي أطالبه دوما بأن يمنحني انطباعا مثيرا عن
نفسي ؟؟
أهو " جمهوري " الذي يتحتم عليه بأن ينظر إلي دائما بعين التبجيل والإعجاب , ولا
يتواني عن " التصفيق لبطولاتي الخاوية " فيرضي غروري ؟؟
أهو الذي أخبئ من خلاله عيوبي ؟؟
أهو الذي أحمـّلة دائما نتائج فشلي ؟؟
أهو الذي أعبئ برفقته وقت فراغي كيفما أتفق ؟؟
أهو الذي أطالبه دائما بالعطاء دون أن امنحه فرصة " الأخذ " حتى ولو كانت معنوية ؟؟
أم صديقي هو الذي أقدر اهتماماته , هواياته , قدراته ومهاراته , وأمنحها قيمة
واعتبارا وتقديرا , كونها حقيقية , أصيلة وحسب , حتى وإن لم تكن مثالية , يكفي أنها
تخرج بصدق دون تكلف أو تصنع ؟؟؟ (كيف الحال إذن لو كانت هذه القدرات والمهارات
عالية ومتميزة كما رأينا في أمسية اليوم ؟؟؟) .
أصديقي هو من أشاركه باهتماماتي , هواياتي , أحلامي , همومي , ما يزعجني وما يقلقني
؟؟؟
أهو مرآتي الناصعة التي تنعكس من خلالها ذاتي الحقيقية فتحرّضني على التعمق فيها
أكثر , البحث عنها أكثر فأكثر والإصغاء إلى صوتها المجرد بالدرجة الأولى , ومن ثم
الإصغاء للصوت الحقيقي الذي ينشده , يعزفه ويبثه نحوي صديقي , فأتحول أنا الآخر إلى
مرآته الناصعة التي تنعكس من خلالها ذاته ومزاياه الحقيقية , فيتجسد , كنتيجة لهذا
التفاعل , معنى الصداقة الحقيقي ؟؟؟ والمشاركة البناءة؟؟ .
علينا أن نجد التعاريف المناسبة لطبيعة علاقتنا مع الآخر , وإلا كان كل شيء فينا ,
حالة من غبار .
لكني أعود هنا وأتساءل مجددا , هل يمكن إلقاء اللوم والمسئولية كاملة على عاتق
الفتيان والفتيات اللذين رافقوا أصدقائهم العازفين في الأمسية وأتحفونا بضجيجهم .
لا أزيل الشك بأنهم حتما مساهمون في ذلك , لكن هناك مسؤولية أبعد تبدأ من المؤسسة
الاجتماعية الأولى , ألا وهي الأسرة .
كيف نربي أطفالنا بحيث نمنحهم الفرصة لاكتساب هذه الميزة الأساسية في شخصية الفرد –
ألا وهي الإصغاء ؟؟؟ كيف ننقل إليهم قيمه عاليه وثقافة بحد ذاتها تدعى "
إصــــغــــــــــــــــــــاء" ؟؟؟؟.
الإصغاء , وهو الاتصال بالذات أولا , وبالتالي الإصغاء واحتمال الاتصال بالآخر؟؟؟
سؤال أطرحه ولا أملك إجابة شاملة عنه , لكن استشهد بمثال بسيط , عندما يرى الطفل
أمه أو من حوله يأكلون تفاحة , فسوف يطلب تفاحة ليأكلها هو الآخر , والأمر مطابق
تماما لحالة الإصغاء , فعندما يجدهم يصغون إلية , لطلباته , رغباته وحاجاته , فإنه
تلقائيا سيتعلم ما معنى وما قيمة الإصغاء , وسيتعلم كيف يصغي هو الآخر .
لكننا وللأسف , محاطون بالضجيج , ضجيج بصريّ , سمعيّ وحسيّ , يحولنا غالبا إلى صمّ
لا نسمع , قسم كبير من هذا الضجيج نحن المسئولون عنه , نبحث دائما عن " أشياء "
سطحية , شكلية وليست ذات معنى , تشغلنا وتشاغلنا , في حين نهمل غاية وجودنا ,
والركيزة الأساسية التي يفترض بأن نبنيها بكل عناية واهتمام , ألا وهي نحن ..ذواتنا
.
فحين لا نقدر بأن نتصل بأنفسنا لا نستطيع مطلقا , بأن نتصل أو نتواصل مع الآخر , أو
أن نتقمصه شعوريا ولو للحظة قصيرة , يمكنها أن تكون من أهم لحظات حياته .
ترقبتُ أمسية الطلاب المتقدمين منذ زمن , تمتعت كثيرا بمقطوعاتهم الجميلة , ببساطة
كانوا أكثر من رائعين , عدت بذاك الفرح الغامر الذي سببه عزفهم الفردي والجماعي ,
إنما مع خيبة أمل دفينة سببتها الحالة التي كانت , حالة الاإصغاء.
أماندا .... لا تأبهي , أصابعك الرقيقة الرشيقة حين تراقصت منتشية فوق تقسيمات
البيانو البيضاء والسوداء , جسدك الرقيق المتفاعل بتوتر طفيف يوحي بالانسجام
والجريان , بالقوة والتحدي معا , لم يكونوا سوى جنة ألوان من نيسان ,يحاكون صدق
مشاعرك الناعمة , صدق توجهك ومثابرتك العظيمة , وكانوا يحاكونا نحن أيضا , علّنا
نقف لحظة واحدة أمام أنفسنا ونتساءل :
أين القيمة في كل ذلك ؟؟
حين لا نبدي أدنى تقدير لقيم الآخرين الواضحة وتوجهاتهم الصادقة , كيف يمكن أن نبدي
تقديرا لقيمنا الضبابية المشوشة التي لم نلامسها ولم نكتشفها ؟؟؟ وكيف هو انطباعنا
عن ذواتنا في حين لم ندركها بعد؟؟؟
إليكم جميعا – ذوي الأصابع الماسيـّة المشدودة لحنا أبديا على الوتر وفوق تقسيمات
البيانو – أقول لكم :
أجمل المصغين لكم ولتفاعلاتكم مع الآلة , اللحن , النوته , التقنية , اللمسة
الرشيقة والمعنى , كان أنتم !!!!
فلتــُبقوا على قنوات تواصلكم مع أنفسكم , أحلامكم وقدراتكم المتفتحة كجنون شلال
ربيعي , فلتــُبقوها مفتوحة , ولا تصغوا إلا إلى ذاك الصوت الذي دفعكم منذ نعومة
أظفاركم للوقف أطفالا على خشبة المسرح , لتجدوا أنفسكم هذا اليوم ســَحــَـرةٌ في
جنة من خيال , أمامنا نحن المنفصمون البعيدون عن أنفسنا , في مملكة الواقع الصماء .
ما زلنا صغار أمامكم , ولا متسع في وعينا لإدراككم...