أنا من الجولان
الأسير سيطان الولي \ خاص لموقع جولاني
21\08\2007
مرة ثالثة تسير بي البوسطة على الطريق المعبد بالإسفلت، الذي يتلوى بين الوديان
والتلال الصحراوية، الممتدة إلى الجنوب في صحراء النقب، والناظر إليها لا يجد إلا
قليلا من معالم الحضارة الإنسانية.
وكأن صحراء النقب مهجورة من البشر، ومجهولة، لم يكتشفها أحد، وتنقطع عندها مظاهر
العمران والزراعة، حتى يتخيل للمرء أن هذه الأرض قطعة من كوكب آخر لم يخط فوقها
بشر..
الشمس تطل من الأفق تسير بموازاة البوسطة المسرعة نحو السجن، وتتراءى لي وكأنها
تركض بين التلال وفوقها، وعلى امتداد السهول القاحلة، وذات الأخاديد التي جعلتها
السيول الناتجة عن سقوط الأمطار على مر السنين، ترافقنا الشمس عبر الأفق البعيد،
وكأنها بعثت لنا وحدنا نحن ركاب البوسطة المكبلين على مقاعدنا الحديدية الباردة،
لتدخل أشعتها إلى أجسامنا المرتجفة، من الثقوب المحفورة في صاجات البوسطة وتدخل
برطوبتها الباردة من الثقوب والشقوق، والفتحات الصغيرة محدثه أصوات صفير وزعيق
وشريق، ناتجة عن اصطدامها بالناقلة، والشقوق التي فيها، والبرد شديد، والأجسام
المكبلة، المكومة فوق المقاعد الباردة تتقلص إلى أقصى حد لها، اتقـاءً للبرد،
تتزاحم فوق بعضها لمنع مرور الريح عن جنباتها، وكأنها تختزل نفسها وتقلل مساحتها
التي تلاطم بروده الريح القارص.
الأجسام ترتجف، تصطك وتتقابض، كرد فعل على البرد الشديد الذي يخترق العظم، لدرجه أن
يجعل الأجسام تتهاوى وتتداعى فوق بعضها، لعلها تشتم رائحة الدفء من مصدر ما، لكن
دون جدوى.
الوقوف ممنوع، الكلام ممنوع، والتدخين ممنوع، نظرات الأسرى إلى بعضهم، ترسل إشارات
تحيات قصيرة، وكلمات متلعثمة تصدر عن الأفواه المصطكة من شده البرد.. هذا من الخليل
وذاك من جنين، وآخر من القدس وآخرون من كافه المناطق.....
من أين أنت؟ سألني أحدهم.. قلت له أنا من الجولان المحتل، فتحول النظرات إلي وترسل
عبر الهواء المار سريعاً تحيات خاصة، تغمرني نظراتهم تعبيراً عن احترام وتقدير وآخر
عن إعجاب...
كم أنت في السجن؟ سألني آخر، اثنان وعشرون عاماً، أجبته، فترتسم معالم الدهشة على
جباههم وتنقبض عجباً واستغراباً، وسألني آخر بعكس رغبتي المضمرة، كيف أمضيت هذه
السنين؟ قلت: كما ترى من سجن إلى آخر، ومن عذاب إلى عذاب، ومن أمل إلى أمل، كثير من
الصمود، وكثير من التكيف، وإرادة دائمة في تجديد ثوب الحرية..
أنت حتماً تعرف الشهيد من الجولان؟سألني أخر أطرقت في التفكير للحظه، وقلت له طبعاً
أنه رفيقي هو هايل حسين أبو زيد، الذي رهن نفسه للكفاح والشهادة، ورحل، وهو رهين
الأمل، أنه يختزل القضية..
يصدر صوت بلغة ثانية يقول «شيكت شاماه».. وسكتنا تحت طائل، فرض النظام، واشتداد
البرد الذي لا يزال يعصف بنا..
وصلت البوسطة إلى مفترق، على مسافة متقدمه، في الطريق في هضبة نفحه، ومنه بدا في
الأفق القريب، أول بناء من صنع الإنسان، أنه سجن نفحه الصحراوي.. عندها شعرت مجدداً
أني لا أزال على الأرض التي يقطنها البشر.....
شريط الذكريات، يمر سريعاً في ذهني، يبحث عن اللحظات التي تشبه هذه اللحظة، فالأولى
كانت قبل عشرين عاماً مضت، وها أنا في نفحه للمرة الثانية، بعد عشرين عاماً نزلت من
البوسطة ومررت بالإجراءات الإدارية المعهودة، كمقدمه لدخولي السجن، ولما فرغت،
وانتهت هذه الإجراءات قادني أحد الضباط إلى الأقسام، عبر ممرات وأبواب وإدراج
ومحطات وقوف وانتظار، وكلما خرجت من باب، أسأله إلى أين الآن، فيشير لي إلى الباب
أو الدرج التالي، حتى بدا عليه الانزعاج.. فقال بنبرة حادة: أول مره تأتي إلى نفحه؟
قلت له:لا هذه الثانية، فقال ولماذا تسألني عند كل باب إلى أين الآن؟. قلت:لأن
المرة الأولى كانت قبل عشرين عاماً، فأدرك الأمر وضحك، ضحك كثيراً، ولعله لأول مرة
يضحك فيها.
كان سجن نفحة قبل عشرين عاماً عبارة عن قسمين اثنين، يتسع لثمانين أسيراً فقط.. أما
الآن فقد بات قلعة هائلة بأبنيته وعدد الأسرى الذين يمكثون وراء جدرانه الصامتة،
حيث لا مؤشرات على أي حركة أو حياة داخلها، إنما الواقع هو أن في داخل هذه الجدران،
ثمة حياة وآمال، وأحلام.. لا تتسع لها الدنيا...
دخلت في مرحلة لاحقة، إلى القسم القديم الذي كنت فيه ورفاقي قبل عشرين عاماً، وهنا
ابتدأ شريط الذكريات يدور في مخيلتي، يحمل معه الحنين إلى تلك الأيام والأشهر
السبعة التي أمضيناها هنا، وكادت مخيلتي تصل بي إلى حد تصور دخولي إليهم في غرفتنا
القديمة، لأجدهم في انتظاري.. لكن... وأنا هنا ثانية وحدي.. أعيش حاله الحنين إلى
المكان والزمان، وإليكم.. لا يبدو في المكان إلا بعض ذكريات قديمة.. فأسير خلف
وقائعنا اليومية تلك، اللقاء مع كادر الحركة الأسيرة مؤتمرنا التأسيسي الأول لمنظمة
الشهيدة غالية فرحات، الاستقلالية والتمثيل الاعتقالي، الإضراب الطويل الأول وبعض
قصصنا اليومية، دولاب الزمان، غرفة الحيتان، والسمك المدخن، لحن الموتى، الفلم
التركي وأفعى مجاري التهوية، والمسبحة الصفراء ونقر القلم على الطاولة.. و...
أنا من الجولان وأنا هنا في نفحة بعد عشرين عاماً، أجمع صدى الأيام وألملم بقايا
ذكرياتنا التقط همسات رفاقي وضحكاتهم، وأجمع أول أحلامهم وأمالهم، واتبعُ خطاهم بين
عتبه الغرفة وساحة النزهة، استعيد استنشاق أنفاسهم وأبحث عن ظل لهم.. ما عاد هنا.
وأنا هنا ثانية، أرسم لي ولكم، يا رفاقي، صورة جديدة لحلم كان بالأمس حلماً غائباً،
والآن أصبح حلماً مكسوراً.. وبات حلماً مقتولاً.
معتقل نفحه الصحراوي
الأسير سيطان نمر الولي