...لم يستيقظا إلا وداعاً... - ارشيف موقع جولاني
موقع جولاني


...لم يستيقظا إلا وداعاً...
الأسير كميل خاطر
13/09/2007

عادت حنان إلى منزلها مسرعة, بعد أن أجرت بعض الفحوصات في مختبر واقع أخر الحي التي تسكن فيه وذلك للإطمئنان على صحة جنينها الذي شارف على الولادة... حاملة بيدها اليسرى كيساً زهرياً كبيراً مليئاً بالثياب التي كانت قد اشترتها لإبنيها الممتلئين رقة, جمالاً ونوراً كنور الملائكة.. وعندما دنت من باب المنزل الموصد بدأت تبحث داخل حقيبتها- بعد أن أركنت الكيس الزهري جانباً- عن مفتاح المنزل وسط بعض الأغراض التي تعودت النساء حملها في حقائبهن الخاصة.. فأخرجت يدها اليمنى وبها سلسلة فضية تربط بعض المفاتيح ببعضها, حيث أخذت واحداً منها وفتحت الباب وهي تنده إلى أغلى ما لديها "يا سيلين يا توفيق..أين أنتما يا أمي!!؟"
سيلين صاحبة عيون المها, مجدلة الضفائر السوداء, تبلغ من العمر أربعة أعوام... وتوفيق ابن العامين ونيف ذات الوجه الدائري المشرق والعيون العسلية.
كانت حنان على عجل من أمرها وكأن أحداً يطاردها, أو لعلها اللهفة والشوق إلى ولديها التي ترغب بأن تزف لهما حسب ظنها خبر تلاقي أمنياتها في الوقت نفسه- فالمولود سيصرخ صرخة الحياة الأولى تماماً عندما يحين وقت عودة زوجها العامل بعيداً عن قريتهم الجبلية, كما أخبرها الطبيب, وبنفس الوقت طفليها سيرتديا ثياب الروضة وحقائب الأطفال المزركشة بعد أن انتهى الصيف وفتح رياض الأطفال أبوابه من جديد. دفعت الباب برجلها اليسرى بعد أن فكت لسان قفله ثم التقطت كيسها الزهري.. خطت خطوة واحدة نحو الداخل ولكنها في الخطوة التالية سقطت إلى الأرض واهنة القوى من شدة الصدمة.. ثم صرخت.. صرخة عالية.. أطفالي.. أولادي يا ناس!!!..بينما كان الدخان الأسود المندفع نحوها يسابق صرخاتها المختنقة.. متدفقاً بكل قوة.. وبلا رحمة إلى الخارج منذراً بالموت الزؤام.
ومن بين تلك الغيمة السوداء شقت صرخات حنان طريقها نحو جيرانها.. حيث بدأوا يأتون من كل حدب وصوب وتعالت أصواتهم.. سادت الفوضى وتضارب الأصوات.. صوت ينادي بتحطيم زجاج النوافذ.. من هنا وصوت يصرخ:-اتصلوا برجال المطافيء يا جماعة من هنالك.. وشيخاً عجوزاً نده من الركن الآخر: "أخرجوا الطفلين من الداخل بكل ثمن..."
أما الأم فبقيت تعاود محاولة التقدم دون جدوى.. فألسنة اللهب المجنونة زحفت داخل منزلها كالزمن دون مفر منها.. حرقت ما حرقت.. وولدت وحشاً أسوداً من الدخان.. مسك بذراعيه اللئيمة أعناق الطفلين وضغط.. ثم ضغط.. رويداً رويداً تباعدت الدقات, تلاشت اللحظات, فرت فسحة الضوء وكسى وجهها عرق بارد وألم..تمددا على الأرض وهدهد كل منهما للآخر هدهدة الأحلام, وناما نوم العصافير. ولكنهما!!؟ بقيا يسمعا صدى صوتهما الذي أنشد سيمفونية طلب الحياة من الحي الذي لم يعيرهما إلا آذاناً صماء.. صدى تردد وتناغم مع جدران المنزل الذي بدى لهما وكأنه معبد قديم مصنوع من أحجار "الطبلة".
فأتصلا مع الأعلى.. مع الأعلى الذي رسمه لهم محيطهم, مسكا بأيدي بعض.. وطارا على أجنحة من نور في فراغ صامت ساكن خالي من الألم.. ابحرا في ضوء .. بعيداً.. بعيداً عن أسود وأبيض الحياة..!!؟
كان الدمار يحول بين حنان وبين تقدمها, لكنها أبت الاستسلام, فبدأت تصارع الجنون بالجنون,وأخذت عيناها اللامعتان تحدق بشدة ملتهمتاً كل الأركان التي تيسر لها رؤيتها بحثاً عن روحها المتمثلة بفلذات كبدها.
زحفت زحفاً كما الجندي الجريح الموكل بزرع الراية على تلة الانتصار.. ودنت منهما دنو المرعوب من موقف فظيع, خائفةً مما كان يجول ببالها فرأت طفليها يغطان بنوم عميق لا يعدل عمقه نوماً.. عزف وجهها لحناً حزيناً.. أما قلبها فكان كسيراً.. لمست وجهيهما.. قبلت أكففهما.. إشتمت برائتهما.. وصرخت...
تهافتت مشاعر الجمع المتدافع, والنساء المفجوعات ملأن الفضاء عويلاً, ولطمن على خدودهن, بعضهن انهار على الأرض, واخريات كان يهرب من وشوشتهن بعض الكلام الخارج من سلم أوتار الوشوشة "الأولاد لا يتركون وحدهم في البيت مهما يكن".
أما أقربهن مني مسافة فكانت توافق الجميع بحركة من رأسها, تعكف فمها, وتقول:- آه يختي.. ساقله على أيام زمان إلي كان الجار للجار وكنا نترك أولادنا عند بعضنا بدون تكلف ولا حرج..!!"
خرج النعشان على الأكف باتجاه خلوة البلد بحشد يتقدمه مشايخ البلد وكبار السن بعد أن ألبسوهما ثياباً تليق بجمالهما الآخاذ.. لكن الحشد كان يتقدم ببطيء شديد كأنه يسير مرغماً على أمر لم يكن ليحبه, والأصوات ما زالت تتعالا "الله يرحمهما..والباقي وجهه الكريم.."
كل شيء حولنا كان حزيناً صامتاً.. الشارع, الأرصفة, الدكاكين, حتى أعمدة إنارة الشوارع كانت تنحني الماً.. مطأطئة رأسها كما لو كانت لم تطأطأه من قبل.. والعصافير كفت عن الزقزقة.. أو بدى لنا هذا.
وقبل أن يحين وقت الدفن وقبل توجه الحشد الغفير إلى تربة البلد التي تحكي قصصاً أليمة حيث يدفن "بخشخاشاتها" جزءاً من تاريخنا, وصل والد الطفلين من عمله البعيد عن القرية ورجليه تهتز تحته غير قادره على حمله.. انتحب الحضور ورتلو.. عدا طفلاً وسيماً كان يقف مبتسماً قرب النعشين وبيده كيس الثياب الزهري فارغاً.. ابتعدن النسوة من حول النعشين ليسمحن للرجال بحملهما إلى مثواهما الأخير.. والطفل المبتسم بقي غير آبه لتأنيب والدته على الرغم من زجرها له بنظراتها كي يكبح تلك الابتسامة, إلا أنه قال: " يا أماه هل سيصعدان على أجنحه من نور إلى الجنة, تحملهما رياحها وتعلو بهما نحو الشمس."
فصمت الجميع- الرجال المتهيؤون لحملهما, والنساء اللاتي ابتعدن للتو- والطفل بكى أما والدهما فكان يحلق معهما في ذكريات لن تعود.