سر الذئبة - ارشيف موقع جولاني
موقع جولاني


سر الذئبة
نبال شمس - 10\2007
nepalshams@yahoo.com

سريتُ ظهراً تحت أشعة الشمس. سريتُ ولم أغدُ والأسباب ليست مجهولة . بل سأحتفظ بها لذاتي : الأنانية ... فلا ترتعبوا من كلمة أنانية لأننا كلنا أنانيين بحق أنفسنا. فأنا أحب نفسي لكني لا أجدها ولا أظن أني سوف أجدها عمّا قريب أو بعيد.
أنا أنانية وأفتخر بأنانيتي فقولوا ما شئتم وما أردتم عني . غضبي ليس شيئاً مهمّا وأنا أدرك أن أحداً لن يغضب مني لأنَّ أغلبكم لن يفهمني.
أما عن ( سريتُ ) و ( غدوتُ ) فهذا الشيء متعلق بعيوني التي لا ترى ولا تبصر كل شيء في هذا الوجود . لا ترى الأشياء كما هي بل تراها بصورة مهندسة كما تبتغيها هي. فأنا لا أرى الفقيرَ فقيراً ولا أرى المكفوف مكفوفا أو الأطرش أطرشا حتى الكلب الذي يرعاه إبني لا أراه كلبا.
عذراً ، ليس جنون! لن أنعت نفسي بعد ذلك بالجنون أو الغباء كما إعتدتُ في نصوص سابقة ، بل سأنعت نفسي كما تتوق النفوس التي أبحث عنها ، في عملية بحث لم تنته ِ بعدُ . فهل تظنون أنها ستنتهي؟ سأبقى أغدو وأسري في كل الأوقات.
قاموس اللغة العربية هنا على الرف الأول في مكتبتي غيرة المرتبة . بعد قليل ستولد له أنامل صغيرة ويقوم ليصفعني صفعة لن أستفيق منها إلا في تلك الحديقة المتواضعة حيث التقيتُ بها هناك بعد فراق دام سنوات عديدة . كانت تعوي بشدة وبرهبة. عواؤها يصدح في الأمكنة وفي الفضاء. لم أخف ْ عواءَها بل خفتُ العناق الذي كاد يخنقني ويفترسني.
ذئبة ٌ تعانقني! ذئبة ٌ تلتف حولي وتنثر شعرها الأملس على وجهي.
أين أمي؟ أريد أمي أو لا أريدها . اشعر وكأني عدتُ طفلة، أريد صدرها . سوف أقبله فارغاً من الحليب . تكفيني قارورة حليب مصنَّع يسفح الحديد الباقي في دمي ، فلا حاجة لبروتين حنان بل بحاجة لشعور بأني سوف أبقى في الحياة بعد ذلك العناق الذي دام ساعات والعواء الذي كاد يسبب لي الصمم .
في الأزمان الماضية عندما كنت آتي لألقاها كان عواؤها فيه براءة . لم يكن مخيفا أو ربما كنت ما زلت طفلة تحب القطط والكلاب والذئاب الرضيعة. تلك الذئبة أتت مرة إلى فناء الدار في بيت أهلي. أتت صغيرة جدا . لا أعرف الأسباب التي جعلتها تأتي إلى الحديقة التي هي عبارة عن شجرة خوخ ، خوخ أوروبي سريع التعفّن ، وزاوية من العشب الأخضر مجمعا للقطط والكلاب . فربما ظنت نفسها قطة أو كلبة ً فرقدت هناك ليكون لقائي بها صدفة حلوة ، أو ربما وصلت سهواً فلاقت الأمان بين قطط حارتنا وكلاب الجيران.
وافترقنا! أنا بعيدة وهي أبعد.
أنا بعيدة الفكر وهي بعيدة الفكر والروح والجسد. كان أجمل فراق عرفته في حياتي ، بل ألذ ُّ لحظات فراق عشتها وانتظرتها.
سريتُ وغدوتُ وأضحيتُ وذهبتُ وجئتُ دون أن أذرفَ دمعة ً أو أضيء شمعة واحدة عليها.
عدت الآن لألقاها ، اللقاء كان صدفة مزعجة . كانت تبدو كبيرة الحجم وطويلة الشعر ومتكورة العيون. حطَّ نظرها على أناملي ووجهي . كنت في حيرة قاتلة هل اترك لها أناملي وأهرب قبل أن تفترسني. أم أدع الامور تسير كما تشتهي الرياح ؟ وعلى الأرجح أنْ أدعها تسير حسب الرياح لا حسب اشتهائي أنا . لكن المصبية إنْ عدتُ بدون أنامل ماذا
سأقول لأبي وأمي وأخوتي ؟ ومن سوف يصدق أقوالي أن الذئبة أكلت أناملي ؟ فمن الصعب تصديق القصة التي تشبه الخيال . الجميع سوف يتهمني بالخيال وتلفيق الأقوال والكذب.
عواؤها كان مزعجا أزعجني إلى حد القرف رغم أسنانها البيضاء الناصعة وفمها الصغير الجميل . لكم أردت أن أعوي مثلها أو لو إني أستطيع العواء كما تعوي هي . لكني كنت معدومة القدرة على هذا العواء رغم جميع محاولاتي التي باءت بالفشل. تساءلت كيف استطاعت أن تعوي كل هذا العواء دون توقف أو استراحة ؟ فأدركت أنها لم تشتقْ لصوتي ولا لتهريجي أو لإخباري فقد أرادت أن تزفَّ لي قدراتها بكل ما أوتيت من قوة. أرادت أن تقول لي بطريقة أو بأخرى أنها أصبحت قادرة جدا على العواء وبطرق مختلفة وصور مغايرة.
كانت تعوي بسرعة وتلهث وتسابق الريح والزمن . وعندما عويت أنا لم تسمعني ولم يسمعني أحدٌ ممن تواجد في المكان . فأنا لا أجيد العواء مثلها ولا ابتكره أو أبدعه. لكن في الوقت ذاته أردت أن أسكتها دون أن أعطيها أناملي ... فخفت العودة بدون أنامل وخفت من أن يأتي يوم ٌ لا استطيع فيه مسك قلمي والكتابة ثانية ً.
عوت وتنططت أمامي كثيراً وحاولت إبراز مفاتنَ لا تملكها أو تخيلت أنها تملكها لكن دون جدوى . حتى في النهاية أصابني الصمم ُ واللامبالاة.
زهقتُ...نعم زهقتُ وأصابني القرف والتذمر.
مع ازدياد عوائها أصبحت اشعر بالأمان وكأني أشفق عليها فقد تبدد الخوف شيئا فشيئا فلم أعدْ أعي علام َ تعوي أو على ماذا حطَّ نظرها . انقلبت الموازين فشعرت بالشفقة عليها ، شفقة كبيرة لا أعرف ماهيتها حتى وقعت في حيرة هل أبقى صاغية لها ؟ هل اتركها وأعود أدراجي ؟ لكنَّ الشيء الذي يبقي قيد علامة سؤال هو: لماذا كانت عيونها على أصابعي وأنا أدرك أن أصابعي لن تكون وجبة بالنسبة لها.
لملمت أشيائي وحقيبتي وأردت الخروج من المكان لكنها عندما شعرت باني استجمع قواي للذهاب قبضت على عنقي وراحت تعوي بصوت أعلى حتى عاد الخوف مسرعا إلى أنحائي وأبصرت نهايتي قريبة ً جدا على يدها. ناولتها أناملي فبدأت بالتهامي رويداً رويداً حتى سال دمي على الأرض. التهمتني دون أن اشعر بذلك أو أنْ أتوجع فقد كان التهامها لي دون تقطيع . كانت تأكلني وتبكي وذلكم سرٌّ ملغوز لم افهمه بعد : لماذا كانت تبكي؟
هل تبكيني؟ هل تبكي نفسها؟ هل تبكي ضعفها أم تبكي ضعفي؟
سأدعها تبكي. سأدعها تأكلني. سأتركها تعوي فرحاً وغضباً ، كرهاً وحباً. إنها الذئبة! العنيفة والضعيفة, القاتلة الميتة, المُفترِسة والمُفتَرَسة.
بلعتني وقضت إلى جحيمها تاركة إيايَّ ارقبها عن بُعد ابكيها شفقة.
ألم أقل؟ لقد قلت لكم: أنا أنانية وأفتخر بأنانيتي . قولوا ما شئتم وما أردتم عني . غضبي ليس شيئا مهما وأنا أدرك أن أحداً لن يغضب مني لأن أغلبكم لن يفهمني.