أصيلة مجدل شمس..
تنظر جميلة الى الوراء كلما شدتها أمها من كمها، لتسرع الخطى ولتبقى ضمن المجموعة..
فما عادت المجدل ترى، وحتى بقعاثا غابت بين التلال، والركب يهرول صوب جبل العرب،
ودخان اسود صار يغطي البقعة التي يحتضن فيها جبل الشيخ مجدله.
فقد طفح الكيل لدى الضابط الفرنسي وقرر إحراق المجدل للمرة الثالثة. فأرسل طائراته
بداية، وثم دباباته وجنوده، ليحاصروا أهل الجولان المتحصنين في المجدل. وبعدما اشتد
الحصار وقاربت الذخيرة لدى الثوار على النفاذ، وسقط من سقط جريحا أو شهيدا، قرر
الثوار وقائدهم أسعد كنج خرق الحصار والتوجه لجبل العرب...
وأم صالح حافية القدمين تشد الخطى. ابنها صالح في "الدمجة" على شمالها، وفي يمينها
خنجر، وتزجر النساء بان يسرعن، وتنادي "يا أبو ابراهيم"، كلما أزّ الرصاص بجانبها.
لقد أغضب الفرنسيين نجاح الثوار في خرق حصارهم وهروبهم نحو الجبل، وهم من نووا أن
يبيدوا هؤلاء السكان النماريد، فجندوا بعض البدو الخونة، وراحوا سوية يلاحقون الركب
الراكض نحو جبل العرب، طلبا للنجاة.
حلقة من نار، وأزيز رصاص، وسيوف، ضربها الخيالة الثوار حول الركب الهارب، المكون من
نساء وأطفال وشيوخ، وظل الفرنسيون والخونة يحاولون اصطيادهم وملاحقتهم، والوصول إلى
الضعفاء منهم لقتلهم ونهبهم.
وأبو حسن شيخ ثمانيني بلل العرق لحيته البيضاء، "باكوره" في يساره وسيفه في يمينه،
يعرج ماشيا على جرح بقدمه، معصوب بعجالة، بعدما انفجرت قذيفة مدفع على باب داره
الخشبي. أبقى زوجته مدفونة تحت الركام، وفارقها وقلبه معها، بعدما تأكد أنها فارقت
الحياة. الشيخ الهرم يصرخ ويشد العزيمة و"ينخي" الفرسان الشباب من
حوله، ويدعي بين كل شهقة وزفرة: "يا نبي شعيب.. يا نبي شعيب"...
واحمد على الفرس الأصيلة يرمح كالبرق. يطارد الخونة. يقتل من يقتل ويعود للركب
ليحميه، ليطمئن على خطيبته سلمى وأمه.
يضيق الخناق ثانية على الجمع الهارب. يأمره القائد.. أن التف ورفاقك وحاصر حصارك.
فيفعل وينجح. ويقع الفرنسي في فك الكماشة. ويقتل. والأصيلة تعود بفارسها لحضن الأهل
المتعبين، لتراه أمه، وتتأكد أنه ما زال حيا. وما زال مبسمه يلمع تحت شاربه الغض
الفتي...
صارت الصخور تبكي. تلف بظلالها شهيداً آخر سقط كلما تقدم الموكب أكثر. لا وقت للدفن
الآن. والأشجار تنوح. ترى من عليائها كيف يكوم الجرحى على الدواب والبغال، لينقذوا
ما استطاعوا من إخوة وآباء وأطفال أصيبوا في المعمعة.
وفاطمة خبأت طفلها الرضيع في سلسلة حجارة. فما عادت قادرة على حمله أو إرضاعه.
فتركته علها تنقذ بقية إخوته الأربعة الصغار. وعلها تعود إليه قريبا لضمه لقلبها من
جديد.
اشتد الحصار أكثر يا أسعد. صرخات الثوار تلاقي بعضها بحشرجة. "النخوات" تهز الارض
وترعب المعتدي. الخيل تعبت ولا تزال تسابق الريح. النهار انتصف، والغوالي يسقطون.
وأدمت أشواك المسير أقدام الثكلى والأطفال. فأمر القائد أحمد، وفارسين معه، بأن
اخرقوا الطوق وتوجهوا للجبل فوراً لطلب النجدة.
وكأن الأصيلة فهمت الأمر. فوثبت فوق الأكتاف المتقاتلة. صهلت وجنحت. وصار الغبار من
خلفها كالغيم..
أحس الفرنسي بالخطة، فطارد الفرسان الثلاثة. أصابت طلقة الخيل الأولى. سقط فارسها.
أمر رفيقيه بإتمام المسير. وكمن للمهاجمين. وأخّرهم بقتله بعضهم ببضع رصاصات ظلت
بجناده. وخرج لهم بسيفه وصدره العاري. فاردوه برصاصة في الجبين.
وأكملوا الملاحقة.
"استمر أنت يا أحمد، وصل الجبل بسرعة. وأنا سأعيقهم هنا"، قالها وترجل عن صهوة
حصانه، رفيق أحمد، وكمن ثانية لمطارديه. فناوشهم وعاندهم وقتل منهم من وصل إليه..
واستشهد. ويئس الفرنسي من الملاحقة. وعاد ليجهز بسرعة على القافلة المنهكة.
وصارت الأصيلة تشد الخطى أكثر، وترمح كالبرق بين الروابي، وتتمنى ألا يسقط أحمد
المنهك من على صهوتها، لتوصله بإمان إلى الجبل...
تلقى الخبر الجلل سلطان. وكالرعد، زأر بصوت الأسد الجسور، أن هبوا يا أهل الجبل
لنجدة أهل المجدل..
حمى الثار انتشرت. يبتر بالسيف الغدر. والدم النازف من الركب المتهالك صبغ كل
الورود. وتراءى للمذبوحين من بعيد جيش سلطان. فانطلقت من الحناجر المبحوحة
الزغاريد. ودبت الحياة في النازحين أن انتقموا. صار الكل يقاتل. حتى الأطفال
تناولوا الحجارة وقذفوها على قحف الفارين الخونة. تصاهلت الأصايل ورقصت. وتعانق
الثوار بالنظرات والدموع. وبدأوا بالرصاص في ظهور الفرنسيين الفارين. بدأوا..
وبالسيوف جزوا رقاب الغدر. والخناجر ضمخت بالدم المعتدي. والعاصفة هدأت.
وتوقفت القافلة المدماة لتستريح، وتلعق جراحها كاللبوءة المصابة. وعادت تهرول فاطمة
لسلسلة الحجارة التي خبأت فيها رضيعها. فما وجدته. فانفجر قلبها حزنا. ودفنوها بذات
السلسلة.
ورأى سلطان من بعيد الأصيلة التي أوصلته الخبر وأحمد. وجثة البطل مسجاة، تشمها
الأصيلة مطأطئة رأسها فوقه. فدفنوه. وظلت الأصيلة فوق قبره تنتظر. فتركها سلطان
باشا لتكمل حدادها على الخيال البطل أحمد.
وظهر فجر آخر. والأصايل، أحفاد الأصيلة، لا يزلن يجبن ربى الجولان، يبحثن عن قبور
الثوار المنسية، ليشممن عطرها، ويأكلن العشب الغض، النابت فوقها...
نبيه حلبي – 03\11\2007
nabi_halabi@hotmail.com