انطباعات شخصية عن
المربي الكبير الأستاذ سلمان فرَّاج (أبو يوسف)
طودٌ شامخٌ هوى…
1941 - 2007
بقلم: يوسف حمود السيد أحمد -29/10/2007
"يا عينُ جودي بدمعٍ هاجَهُ الذِكرُ
فما لدمعكِ بعدَ اليومِ مُدَّخرُ"
فجأةً سقط المارد من عليائه، بلحظات ودون أي إشارة أو دليل توقَّف القلب عن الخفقان
بعد أن كان يضج بالحركة، خمسةٌ وأربعون عاماً من العمل الجاد المتواصل الدؤوب انتهت
بلمح البصر، فقبل أسبوع تماماً من وفاته ودَّعنا دون أن يدري، عندما طلب منه أحد
زملائنا أثناء الجلسة في المركز التربوي بيركا أن يهتم بموضوع كان يشغلنا، أجاب:
"اتركوني فقد خرجت للتقاعد وأريد أن أرتاح، فقد يكون هذا آخر لقاء بيننا ؟؟؟ وكان
فعلاً آخر لقاء بيننا. فعندما قرر أن يرتاح، كان القدر بالمرصاد، فانطفأت الشمعة
التي أنارت الدرب ما يقارب النصف قرن من النضال في مجال التربية والتعليم من جهة،
والكتابة والتأليف من جهة أخرى، لست أدري ما الفائدة التي يجنيها الإنسان لنفسه من
عمل طويل شاق، من أجل المصلحة العامة، وراحة الآخرين، وما إن يتنفس الصعداء قليلاً
حتى تختطفه يد المنون إلى غير رجعة، لعلَّ في كلامي هذا شيء من الكفر، أستغفر الله،
فقد بلغ التأثر بي مبلغاً كبيرا، ولعلَّ الأسرة التي أنشأها فقيدنا الغالي أبو
يوسف، وما ترك من زوجة وأنجال (يوسف وشادي وهشام وميسون ) متزوجون، و(بلال وجليل)
لا زالوا في حياة العزوبية، مع عشرة من الأحفاد، أحبهم جميعاً وأحبوه، ويتباهى بهم
كل من يعرفهم، فهم العوض عن فقد والدهم بما يملكون من أخلاق حسنة وثقافة عالية،
وكان رحمه الله قريباً من العائلة والأقارب، وعلى علاقة احترام وتقدير للجميع وخاصة
الأبناء والأحفاد، يناقش الجميع ويحاورهم ويجادلهم في كل أمور الحياة، وفيما
يعترضهم من مشاكل، يعتمد دائماً أسلوب الحوار والنقاش.
ثم من الناحية الأخرى، ما تركه هذا الرجل من سمعة طيبة، وصيتٍ حسن، إن كان في
الوظيفة التي شغلها كمعلِّم لخمسة عشر عاماً، وكمفتش عام ومفتش مركِّز لموضوع اللغة
العربية لمدة ثلاثين عاماً، كان نزيهاً شريفاً لم تتلوَّث سمعته بشيء، ولم يُعرف
عنه أنه أضرَّ بأحد، أو تسبب بإيذاء مخلوق.
تذكِّرني هذه الحياة بقول الشاعر الشبراوي:
يا طالباً راحةً من دهرهِ عبـثاً أَقصرْ
فما الدهـرُ إلاَّ بالهمومِ مُلي
كم منظرٍ رائقٍ أفنتْ جمـالتهُ يدُ
المنـونِ وأعيـتهُ عن الحيـلِ
الموتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخلهُ لكنَّ ذا الفضلِ
محمولٌ على عجلِ
وليس فقدُ إمـامٍ عالمٍ علَـمٍ
كفقدِ من ليس ذا علمٍ ولا عملِ
المرحوم أبو يوسف سلمان من مواليد قرية الرامة العامرة التي تميزت بأبنائها وبناتها
من جميع الطوائف الدينية، وبما وصلوا إليه من مراكز ومناصب، فقد ثابر أبناؤها على
الكد والمعرفة، واتخذوا طريق العلم، فكثُرَ فيها المتعلمون، وانتشروا في البلاد،
وتسلَّموا مراكز عالية، وكان مولده بتاريخ 1/3/1941 وأنهى دراسته الثانوية فيها، ثم
تابع تعليمه الأكاديمي في دار المعلمين العربية في حيفا حتى سنة 1962، حيث عُين
مدرساً في قرية نحف، انتقل بعدها إلى قريته الرامة 1965 للتدريس في المدرسة
الابتدائية، ومن ثم في الثانوية حتى عام 1983 وبنفس الوقت تسلَّم منصب مفتش لموضوع
اللغة العربية منذ العام 1978 وحتى سنة 2007 حيث قرر أن ينهي عمله ويتقاعد، وانتهت
فترة عمله في 15/7 وتشاء الأقدار أن يتوفى بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ، أي
بتاريخ 18/7/2007.
لم يترك الشاعر والأديب سلمان فراج معلوماته وثقافته على ما حصَّله في البداية، بل
اغتنم الفرصة عندما عمل محاضراً في الكلية الأكاديمية "جوردن" بحيفا، ليتمم تعليمه
العالي فحصل على شهادة الماجستير في اللغة العربية من جامعة حيفا، وكان من خلال
عمله كمفتش يشترك في إعداد المناهج التعليمية، والكتب التعليمية أيضاً في موضوعات
التراث الدرزي والتاريخ واللغة العربية، وترأس لجنة المناهج التعليمية وطواقم واضعي
الكتب التدريسية في اللغة العربية للصفوف من السابع حتى الثاني عشر في الوسط
الدرزي.
من نشاطات الفقيد الكبير أنه كان أديباً وشاعراً وناقداً أدبياً، له العديد من
الدراسات الأدبية التي نُشرت في الصحف وفي بعض الكتب النقدية، وقد أصدر مجموعتين
شعريتين الأولى: بعنوان "نقوش عبر الإطار" أصدرتها في العام 1992 دائرة الثقافة
والفنون في وزارة المعارف والثقافة، والثانية بعنوان: "عِدال" أصدرتها دار المشرق
للترجمة والطباعة والنشر في شفاعمرو سنة 2001 وله مجموعة قصص للأطفال لم تنشر كلها،
وكان عضواً للهيئة الإدارية لرابطة الأدباء الفلسطينيين، وفيما بعد عضواً في هيئة
الاتحاد العام للكتاب، وترأس تحرير "مجلة الهدى" لسنوات عديدة، وكان عضواً في هيئة
تحرير "مجلة المشرق".
يقول الدكتور محمود عباسي في تقديمه لمجموعته الشعرية عدال: "أنه تميَّز دائماً في
التجديد والتطور في قوالب الشعر ومضامينه، من خلال تلوُّن الصياغة ومفهوم أبعاد
التعابير الشعرية، وهو يقطع من خلال هذه المجموعة شوطاً بعيداً في التناص التراثي
والثقافة العربية والإنسانية."
حاز الفقيد على جائزة وزير المعارف والثقافة للتفرغ للكتابة والتأليف في اللغة
العربية سنة 2006 وكان لأكثر من مرة عضواً ورئيساً في هيئة الحكَّام لهذه الجائزة.
عرفت الفقيد أبو يوسف سلمان منذ ربع قرن ونيِّف، بحكم عملي كمدرس للغة العربية في
هضبة الجولان، وكنت عائداً حديثاً من لبنان، بعد إقامة ستة عشر عاماً، عايشت
الأحداث التي حصلت هناك، وفي جعبتي الكثير من القصص والحكايات عن الحرب المحلية
المدمرة التي بدأت سنة 1975. فأثار ذلك اهتمام الفقيد وكان يسألني بشغف عن الأوضاع
هناك، وما الذي حصل، وعن أحوال الناس، ومصير تلك البلاد، والتدخلات الأجنبية، وقدرة
الناس على العيش. وكنت أشعر من خلال أسئلته وإصغائه واستفساراته مدى الشوق والرغبة
للاطمئنان عن هذا الشعب الذي راح ضحية المؤامرات والأطماع، فيسأل عن أديب أو شاعر
لبناني أو سوري بهدف الاطمئنان ولمعرفة المزيد من أخبار العظماء والكبار وما حلَّ
بهم، فيظهر عليه الألم والتأثر عندما تكون القصة مأساوية، ويسعد كثيراً عندما تكون
الحكاية ممزوجة بشيء من الفرح، وترافقنا طوال هذه المدة بلقاءات متقاربة حتى أصبحت
بيننا صداقة أخوية صادقة، فقد كان وفياً كل الوفاء ومخلصاً كل الإخلاص لأصدقائه،
تميَّز باللباقة في الحديث، ودماثة الخلق، والسمو في الخطاب والحديث، فقد عُرف
كوجيه اجتماعي، يؤخذ رأيه في الكثير من القضايا الاجتماعية، فهو شيخٌ حكيم مجرِّب
مع الكبار، وبسيط لطيف سلس مع الشبَّان والصغار، تقدمياً في أفكاره يحترم المرأة
ويقدر مشاعرها ويساويها بنفسه، يحفظ الأسرار، ويبتعد عن النميمة ولا يحمل ضغينة
لأحد.
كنا نلتقيه دائماً ضمن طاقم مصححي امتحانات البجروت للغة العربية، في المركز
التربوي بيركا، أو في المربد بتل أبيب، وفي الاجتماعات التربوية التي تتم بين الحين
والآخر، وفي لقاءات عائلية خاصة، أو مناسبات اجتماعية من أفراح وأتراح، فتجد أنه
حريص على أن يشعرك بالود والصداقة، فتستمتع بحديثه، فقد يطلب منك شيء ما خاص بالعمل
أو المدارس فلا تشعر أنه يخاطبك كمسؤول بل كأخ وصديق يتبادل الأحاديث المفيدة
والنافعة في كل وقت، ولا يتأخر في تأدية واجب، ولا يتباطأ في تقديم كل معونة لمن
يستحق.
كم من المرات طلب مني أن أعيد عليه سرد قصة لحادث خطير تعرضت له أثناء وجودي في
لبنان، كاد يُفقدني حياتي، وذلك في خضم الحركات الغوغائية التي سادت البلاد في ذلك
الوقت من أواخر السبعينات والحادث فيه شيء من العبرة، حيث تدخلت الإرادة الإلهية
لتنهيه بالشكل الذي انتهت به، فكان يفكر ملياً بالقدر وما يفرضه على الإنسان، وقد
أبدى استهجاناً كبيراً لتصرف شاب صغير كان في مقتبل العمر وقتها وهو أحد طلابي
الذين كنت أعلمهم بالمدرسة الثانوية، والذي خلَّصني من الموت المحتَّم. فيغرق في
تأملٍ عميق ويقول: لا تعجب يا صديقي فإن الله على كلِّ شيء قدير، والكل يعجز لا
محالة، قلم تأتِ ساعتك بعد.
كان المرحوم شخصية مؤثرة في المجتمع، وامتاز بعلاقاته الحسنة وحبه للناس، وتفانيه
بالعطاء لأسرته ومهنته وأهله وأبناء بلدته خاصة ومجتمعه عامة، فلم يبخل مرة بالمحبة
والعطاء، وقدَّم الكثير من الخدمات للناس الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم.، فقد كان
إنسانياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، مؤمن بالقضاء والقدر.
لقد أحبَّ الأرض وعمل فيها، فكان يقضي معظم أوقاته عندما يعود من عمله في الحقل
وبين أشجار الزيتون، وفي أيام العطل ونهاية الأسبوع يتوجه إلى الحقل أيضاً ويتعامل
مع أشجار الزيتون وكأنها كائن حي، يجني ثمارها ويتموَّن من زيتها، ويصنع بيده
الصابون البلدي المختلف الأنواع، من الصابون العادي إلى صابون الغار وغير ذلك.
كان المرحوم مخلصاً في انتمائه العربي، ففي أحد الأيام كنا نجلس معاً في مكانٍ ما،
فرأيته ساهماً مفكراً، فسألته ما بك؟ أجابني: "حلمي في يوم من الأيام أن أتمشَّى في
شوارع عاصمة عربية كدمشق أو بيروت"، فشعرت كم كان يحمل في نفسه من الحسرات
والأمنيات للعودة لجذوره الأولى فيعيش للحظات في بيئة تتناسب مع أحلامه وطموحاته،
ويتحسس دفء الأهل والوطن، فبادلته هذا الوجع والألم متمنياً له أن يتحقق حلمه هذا،
لكنه رحل دون تحقيق هذا الحلم.رحمه الله تعالى.
يوسف حمود السيد أحمد
مجدل شمس – هضبة الجولان