امرأة ثرثارة وثلاثة رجال صامتون
سليم أبو جبل
-من هؤلاء؟ من أين أتوا؟ أنا لا أعرف عنهم أيّ شيء... يقولون إنهم إخوتي، هراء لم
يكن لي إخوة أبدًا، الآن وبعد أن حصلت على ثروة أبي يظهرون فجأة ويقولون إنهم
أخوتي، حتى أنهم لا يشبهونني هل لاحظت ذلك؟ لا شكّ أنك لاحظت. أين ذهب يوسف؟ اللحظة
كان هنا.
كانت السيدة بديعة تقول كل هذا وهي واقفة عند زاوية المطبخ، في الطابق الثاني من
البناء المطلّ على الحوش الكبير الفارغ، أمّا زوجها فكان جالسًا في مكانه على
الكنبة المنفردة والمفضّلة لديه منذ سنين، يصغي بغير اهتمام لزوجته، يجيبها بحركات
تعبة من وجهه، وفي اللحظة التي تدير فيها وجهها نحو الحوش الكبير في الخارج وتواصل
الحديث، على الأغلب لنفسها، فإن صاحبنا يشعر براحة شديدة ويعفي نفسه من الحركات
والإشارات التي دأب على إتقانها منذ سنوات عديدة لكي يفوز برضا السيدة زوجته،
وغالبًا ما كان يتحفها في نهاية خطبتها بجملة تفعل فعلاً حسنًا لديها:
-أظن أنك على حق..
أو أن يقول:
-كل ما قلته صحيح.
لم يكن هذا عملاً مرهقًا، خاصة وأنه كان قد أتقن الاستماع إلى صوت العصافير في
الخارج في ذات الوقت الذي كانت السيدة بديعة تواصل خطبتها:
-من هؤلاء؟ أنا لا أفهم كيف يجرؤون على القدوم وقول شيء كهذا، أي وقاحة هذه، هل كنت
تتصور أن يحدث هذا؟ أنا لم أصدق عينيّ حين بدؤوا بالبكاء، وكأن والدي المرحوم لم
يكن يفارقهم، أنا ابنته لم أشعر بالأسف عليه، هذا العجوز المقيت. من كان يريد أن
يكون له والد كهذا، ليس لدي أخوة، لا.. مخادعون ظنوا أني صدقتهم، سيأتون الليلة،
وسوف أريهم، سأقول لهم: أنتم كاذبون، هكذا ببساطة، أنتم كاذبون، أين يوسف؟ ألا
تعرف؟ إنه ابنك كما هو ابني... الطعام أصبح جاهزًا، هل ننتظرهُ؟ ها.. وإذا لم يعد؟
بالطبع، فإن السيدة بديعة لم تكن تنتظر جوابًا من زوجها، ولم يكن هو بطبيعة الحال
على استعداد للتفكير في أجوبة، بل على الأغلب أنه كاد يغفو على الكنبة المفضلة
لديه، حين أتاه صوتها من وراء غيمة كبيرة، من بخار الفاصوليا وغطاء الطنجرة في
يدها:
-يبدو أنك تعبت من الجلوس هكذا وقتًا طويلاً، اذهب ونم قليلاً، حين يأتي يوسف
سأوقظك، هذا إن أتى، وإن لم يأتِ فنأكل وحدنا، هل رأيت ما حل بنا؛ تزوجت عائدة
وسلوى وأماليا ولم يبقَ سوانا في هذا البيت... يوسف لا يشاركنا الطعام ولا يجلس
معنا حتى أنه لا يتكلم، أيُّ شاب هذا، كأنه أخرس. الفتيات لا يتكلمن، هذا ممتاز
لأنه من دواعي الأدب، لم أكن أطلب منهن أن يبدين رأيهن في أي شيء. كان لدينا فتيات
خجولات، لا يحدِّثن أحدًا، أمّا يوسف فلم أنوِ أن يكون كذلك... فما رأيك هل يعاني
من مشكلة ما؟ في كل مرة أقول له أن عليه التفكير في الزواج، فإنه لا يجيبني، صامت
كالحجر هذا الشاب، ما رأيك، هل يعاني من مشكلة ما؟
لم يحاول الزوج أن يجيب لأنه يعرف أن الأسئلة التي تطرحها زوجته كفيلة هي بالإجابة
عليها، ويحدث هذا الأمر دائمًا منذ الشهر الأوّل لزواجهما. وقتها بدأت تظهر موهبة
السيدة بديعة في قدرتها الخارقة على الكلام، وبمرور وقت قصير أذعن الزوج لهذه
القدرة الهائلة وعرف أنه خاسر في هذه المعركة، فقد كانت تقضي على أيّ شهيّة لديه في
الكلام. كان لديه دائمًا ما يقوله، ولكن بعد أن يقدم رأيه في ثلاث جمل على الأكثر
تأتي الكلمة التي تمسك السيدة بديعة بواسطتها زمام الحديث، كأن تقول: لا... أو
قولها: ماذا؟ أو أي كلمة صغيرة غير ذات أهمية من كلمات العربية والتي تجيد تلحينها
وقذفها بوجه هذا الرجل المرتعد، والذي يبدأ حديثه وهو ينتظر هذه المداخلة، التي
يبدأ بعدها التحوّل الدرامي في النقاش، وذلك لأن السيدة بديعة لا تسكت بعد هذا
أبدًا، وهو لم يفعل ما يغيظها أللهمَّ سوى بداية حذرة لتفنيد رأيه، كأن يقول:
-إن وافقت سلوى على زواجها من هذا الشاب فلن يكون هذا بالأمر السيئ، أظن أنه من
الأفضل أن ندعها تقرر بنفسها.
-ماذا؟ ندعها تقرر يا ويلي عليك كيف تفكر، تقرّر! ها.. هذه الفتاة الساذجة التي لا
تعرف عن الحياة الزوجية سوى طير اللقلق الذي يحضر الأطفال في سلة إلى والديه.
وتواصل عرض رأيها في الموضوع بتفصيل وإسهاب، وفي نهاية المونولوج المؤثر تقول:
-أظن أن هذا الشاب مناسب لها فهي لا شك بحاجة إلى شاب مثله يأخذ بيدها ويريها
الأمور على حقيقتها، حسنًا، في المساء قل له إننا موافقون.
بالطبع لم يكن الزوج العزيز هو من يصرح بالموافقة، بل كانت السيدة بديعة هي من تقوم
بكل ما يتطلّب، وهذا ما حدث هذا المساء حين قدم الرجلان لتسوية أمور تركة المرحوم،
ومن سوء حظهما أنهما لم يعرفا بعد حقيقة السيدة بديعة التي رأوها تبكي في المرة
السابقة وتصغي إليهم دون أن تجيب. وبالطبع لم تكن تفعل ذلك إلا من هول الصدمة، فلم
تكن تتوقع أن يأتي أحد ويعلن فجأة أنه أخاها.
دخل الرجلان ورائحة طيبة تسبقهما، وكانا في أحسن حال يلبسان أفخر الثياب وشعرهم
مصفّف بعناية. ببساطه، شعرت السيدة بديعة، وهي لا تزال في ثياب البيت ورائحة
الصابون تفوح منها، أن شيئًا ما تحرّك في داخلها، وجعلها تحسّ برغبة قوية لو أن
هذين الرجلين أخواها فعلاً، وحدّثت نفسها كم هو رائع أن تحدث مفاجأة كهذه.
قدّمت لهما القهوة، بدأ الأول بالحديث بنبرة هادئة وحزينة:
-إنه والدنا وعرفنا ذلك منذ سنين ولكننا لم نجده .. وكما قلنا في المرة السابقة،
فقد تزوج أُمّنا بصورة سرية لمدة خمس سنوات وانفصلا بعد ذلك، وقبل أن تموت أَرَتنا
عقد الزواج وهناك كان اسمه واضحًا، وانتظرنا طويلاً أن نجده ولكن للأسف حدث هذا
متأخرًا.. لقد قرأت خبر وفاته في الصحيفة وهكذا وصلنا إليكم.
وهنا حدث ما يجب أن يحدث وهو أن تتدخّل السيدة بديعة عند أول فرصه..
-وصلتم إلينا!
-نعم... و...
-حسنًا، عليك أن تعرف أولاً أن أبي المرحوم لم يكن له زوجة على الإطلاق ولا حتى
بالسرّ، ثم أنه لم يكن يغادر البيت مطلقًا، حين يعود من العمل يجلس في الشرفة حتى
مغيب الشمس، ثم يدخل ليستمع للراديو في غرفته، وينام حتى الصباح.. فَقُلّي بربك كيف
يتسنّى له الوقت لأن يتعرّف بامرأة فاسقة كأمِّك ويتزوجها وينجب منها أطفالاً...
أيُّ هراء هذا... أرني هذه الورقة التي في يدك... أرني إياها.
مدَّ الرجل الورقة إليها، ونظر إلى زوجها الذي أزاح نظره في الحال، وحدّق في صورة
المرحوم صاحب التركة المعلقة على الحائط، وكأنّ الأمر لا يعنيه.
-هذا هو عقد الزواج إذن، مزور... أجل مزوَّر، لا شكّ أنك فعلت هذا. كان أبي رجلاً
مخلصًا وشريفًا ثم أنكما لا تشبهان أحدكما الآخر فكم بالحري أن تشبهاني، مخادعان..
هذا ما أنتما...
أصاب الذهول كلا الرجلين، ولكن السيدة بديعة لم تمنحهما فرصة استيعاب ما يحدث
لتنقضّ عليهما:
-إن كنتما تظنّان أنه بدخولكما من الباب تستطيعان سلب الناس أموالهم، فإنكما مخطئان
تمامًا، واستمرت على هذا النحو إلى أن قالت فجأة:
-زوجي هل تريانه؟
نظرا سوية إلى الزوج
-لم أكن لأصدق أنه يفعلها، في مرة جاءني ليقول أنه متعب من الزواج، لم أصدقه ولم
أعره أي اهتمام، وها هو لا يزال زوجي وهو راضٍ بذلك، أنتم الرجال كاذبون، هذه صفة
متأصّلة فيكم، أشكر الله الذي لم يخلقني رجلاً.
وراحت السيدة بديعة تعرض الفروق الأساسية بين الرجال والنساء من وجهة نظرها وتقدّم
مثلاً حيّاً على ذلك تخلص من خلاله إلى أفضلية النساء على الرجال:
-زوجي مثلاً لا يقوم بعمل مفيد، يجلس طوال الوقت دون حراك، لا يتكلم، لا يقول
شيئًا، حتى أنه لا يشْتُم ولا يفعل أي شيء يشير إلى وجوده، أليس هذا كذبًا؟ هل يوجد
رجل كهذا بربكم؟
وهنا يهزّ كلا الرجلان رأسه بالنفي، وتواصل:
-يوسف ابني الوحيد خرج منذ الصباح ولم يعد حتى الآن، حين يأتي سترون أي طفل مراوغ
هو، أسأله فلا يجيب، يفعل ما يحلو له، أي قوم هم هؤلاء الرجال؟ يصعب عليّ الفهم...
وهنا انتقلت السيدة بديعة إلى بناتها:
-سلوى عايدة وأماليا بناتي العزيزات سعيدات بزواجهن، مخلوقات لطيفه هن النساء لا
يفعلن ما يدعو للأذى والسخط، أما ابني يوسف فأينما يتحرّك فالأشياء تقع وتنكسر وحين
يغضب يرمي الملاعق من الشباك، هناك في الحوش أشياء تلمع، إنها ملاعقنا، هذا المخلوق
المتمرّد لو كان يصغي إلّي، لو كان يوافق أن يتزوج، ولكن تعرفون كم هي صعبة الحياة
هذه الأيام، فأين سيسكن؟ زوجي يقول ليسكن معنا، صحيح ؟
لم تأتِ الإجابة من الزوج لأن السيدة بديعة واصلت حديثها:
-لم تعد الحياة تطاق؟ فالغلاء يصيب الناس بالجنون، يا ويلي، لقد ذهبت قبل أسبوع
لشراء بيجاما لزوجي، فهو يحب النوم أكثر من أي شيء آخر، وهناك قال لي البائع أن
سعرها، لو تعرفون كم...
مرت ساعة كاملة وبدا التعب الشديد على الرجلين، وبدأ يتحيّنان الفرص للاستئذان
بالذهاب وقد اقتنعا أن حديث السيدة بديعة قد لا ينتهي:
-ثم أني غير راضية عن زعيمنا، لقد أصبح عديم الجدوى في الفترة الأخيرة، وكما قالت
جارتي أم سعيد فأنه لا بدّ من أن يتنحى ويأتي مكانه من هو أكثر شبابًا، وحسب قولها
فإن زوجها يعتقد أنه يجب أن تجرى في البلاد انتخابات ديمقراطيه، فلا يعقل أن لا
يتغيّر الرئيس خلال ثلاثين عامًا، هذا زوجها، أما زوجي فإنه يعتقد أنه إما أن يتنحى
الزعيم أو أن يحدث انقلاب، ليس هناك حل آخر، أليس كذلك؟
طبعًا لا جواب من الزوج كما عهدتموه، وواصلت السيدة بديعة في انتقالة درامية مدهشة
حيث قالت:
-أظنّ أنه لا بأس أن يكون لي أخوان مثلكما، فأنا لم يكن لي أخوة أبدًا ، حقّاً لما
لا ما الذي يمنع أن يكون لي أخوان، هكذا فجأة، إنها هدية من الله بعد وفاة والدي،
منذ اللحظة الأولى التي رأيتكما بها خفق قلبي أي والله، أقسم بذلك. أمّا زوجي فلم
يحسّ الشيء نفسه، على العكس فإنه لم يستلطفكما، وقال لي إنكما مراوغان دون شك، لكن
لا، قلت له: أنت مخطئ يا عزيزي...
استمرّت السيدة بديعة في حديثها بسرعة غير اعتيادية، وفي كل مرة كان يحاول أحدهم أن
يقول شيئًا ما كانت السيدة بديعة تسبقه بالاستطراد في رأيها والانتقال من موضوع إلى
آخر بمهارة مدهشة. وهكذا مرّت الساعة الثانية، مما جعل الزوج العزيز يستأذن منهما
بحركة من يده لئلا يزعج استرسال زوجته في الحديث، ويدخل إلى غرفة النوم ليستريح من
عناء الإصغاء.
وأخيرًا حانت الفرصة الذهبية حين دلف من الباب شاب صغير السن، وهنا صاحت السيدة
بديعة:
-يوسف أين كنت، لقد انتظرناك على الغداء؟
لكن يوسف لم يجب بل سار إلى غرفته دون أن يبالي بها أو بضيفيها، واللذان ومن حيث لم
تدرِ كانا قد وصلا إلى جانبها وهما يستأذنان بحرارة، واغتنما فرصة أن الباب كان لا
يزال مفتوحًا، فخرجا وهما يسرعان بالمشي ويهزّان رأسيهما ويتحدّثان بجمل عصبية
سريعة.
أطبقت السيدة بديعة الباب والتفتت نحو الطاولة وصاحت:
-لقد نسيا العقد هنا!
حملت العقد ودخلت إلى زوجها وهي تقول:
-لقد نسيا العقد المزوّر ... هل تعلم ما سأفعل بهما الآن؟ اسمع ..
وجلست على حافة السرير وبدأت بالحديث، أما الزوج العزيز فقد دخل بكامله تحت الغطاء،
جاهدًا في أن يصغي لصوت العصافير في الخارج، وفي أن يجعل صوت السيدة بديعة يغيب وهي
تشرح بإسهاب ماذا عليه أن يفعل بالعقد المزور، وكيف سوف تسجن هذين المحتالين.