لن يذهبوا إلى الجحيم إنهم يعيشون فيه
نضال الشوفي – 26\01\2008
كاد يمضي من نهار العمل ذاك ساعتين ليس أكثر. أنفرد في إنجاز مهمة صغيرة، فأضع
سماعة المذياع على أذني، وأقلّب المحطات لاصطياد خبر جديد، لكن الأخبار صامتة لا
تقول شيئاً عدا ما اجترته على مر أيام. أعاند نفسي وأضغط زر الموجة مراراً حتى
تستوقفني إذاعة الجيش الإسرائيلي، لا بأس ما دمت أفهم ما يقال بالعبرية، ثمة مسابقة
لاختيار طائر يكون رمزاً قومياً لدولة إسرائيل. المذيع يجري لقاءات مع بعض خبراء
الطيور المكلفين بذلك.
قال أحدهم: "أختار الدوري، لأنه عصفور قوي، ينتشر على جميع أراضي الدولة، في المدن
والقرى على السواء، يستطيع التأقلم مع الظروف الجوية المختلفة، وأعداده كثيرة
لدينا". وطفح يسهب في صفات الدوري، حتى كاد يشركني في المسابقة.
قلت لنفسي: "لما لا، الدوري هو العصفور الأنسب بالفعل، لكن، ماذا يمكنني أن أختار
عصفوراً يمثل الفلسطيني، ويعبر عن حاله؟ ليس أكثر صواباً من اختيار السنونو،
فجناحاه قويان تحملانه لأماكن بعيدة على مر الفصول، ومنقاره ضعيف، وبيته من طين هذه
الأرض، لكنه مباح لعصفور الدوري، يطرده منه بعد أن يقتل الصغار ويرميهم خارج العش،
ثم يستوطن المكان. حسناً، إنه الاختيار الأنسب".
لم تتداعى أفكاري أبعد من ذلك، فصيحات زملائي تدعوني للغداء. نتحلق حول طاولة من
خشب أعددناها بأنفسنا، ويفرد كل منا زوادته عليها بصمت يمتد حتى انتهاء الوجبة،
فيكسره أحدنا بخبر عن غزة:
"لقد فجر الفلسطينيون الجدار الحدودي مع مصر، واجتازه أهل غزة لشراء الطعام".
أجابه آخر على الفور: "أولائك الفلسطينيون هم سبب البلاء، فليذهبوا إلى الجحيم
ويدعونا نعيش"، أيده ثانٍ، فدار حوار نزق أشبه بنزاع ٍ على تخوم الاحتراب، لم أشارك
فيه إلا ببضع كلماتٍ وجهتها لهذا الآخر أو الآخرين، بعدما استحضرت ذاكرتي وأنا أسمع
حججهم، كتاب سيكولوجيا الإنسان المقهور، وإحصاءات اليونيسكو حول الثقافة العربية،
وأبيات الشافعي:
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي
استعرت كلمات سلمان الفارسي: "لا تقل ما لا تعلم فتتهم فيما تعلم"، ثم أضفت "أهل
غزة لن يذهبوا إلى الجحيم، إنهم يعيشون فيه". لكن الآخر واجهني بصمت الجاهل
المرتبك، فتركته قاصداً ركن العمل الذي أنفرد فيه، وضعت سماعة المذياع على أذني،
وأخذت ألاحق أخبار غزة.
عقب على المادة |
لا توجد تعقيبات حاليا |