تحدياتنا تحت الاحتلال
في ذكرى الإضراب السادسة والعشرين
منير فخرالدين - 13\02\2008
مقدمة:
إنّ التحدي الأكبر الذي نواجهه تحت الاحتلال الإسرائيلي هو كيف نتعلم العيش الأفضل
تحت هذا الاحتلال من دون أن نفقد هويتنا الوطنية، بل من خلال تعزيزها باستمرار
واستكشاف معانيها. وهذا القول لا يقلب الواقع رأساً على عقب، بل هو في حقيقة الأمر،
يعبر عن تاريخنا وواقعنا أفضل تعبير. إنه يقلب مقولات سطحية باتت واسعة الانتشار،
توصفنا بأننا منشطرين على أنفسنا، بين سوريّةٍ ننقطع عنها من جهة وإسرائيليّةٍ
نكتسبها من جهة أخرى. وكذلك فإن تحدي الحياة الأفضل والهوية معا، يشمل تحدي
المواجهة ولا ينفيه؛ فقد أوجب علينا هذا التحدّي المزدوج ومازال أشكالا عديدة
للمواجهة مع الاحتلال. إنّ تاريخنا حافل بمحطات هذه المواجهة، ولا يسع المرء إلاّ
أن يرهف وجدانه بهذا التاريخ في ذكرى حدث تاريخي ندين له جميعنا كرامتنا الوطنية
ومقدرتنا على تحدي العيش تحت الاحتلال معا.
لست بمكان هنا لأسرد تاريخ الإضراب. بل أكتب من موقع شخص ترعرع في فترة الإضراب وما
تلاها وسعى لفهم تلك التجربة من منظور التأريخ السوسيولوجي، الذي يتخطى التجربة
والذاكرة الفردية ليوظفها في بناء فهم أوسع للأحداث وذاكرة عامة وسياسية لها. وفيما
يلي بعض الملاحظات بهذا الصدد.
1.
يشغلني منذ سنوات السؤال عن كيفية تأثير الاحتلال ومشروعه الاستيطاني فينا، وهو
سؤال كثيرا ما يُحيَّد تحت وطأة أسئلة أخرى تبدو للمهتمين بالأمر أكثر إلحاحا مثل:
كيف نواجه الاحتلال؟ أو ما العمل لتوحيد الصف الوطني؟ الخ. والحقيقة المرّة هي أن
هذه الأسئلة المترابطة باتت تثير مشاعر الإحباط والتحفظ والاستهجان أو حتى
الاستهزاء. ولذا أرى الرجوع إلى سؤال أولي عن كيفية تأثير الاحتلال فينا كمقدمة
للأسئلة الأخرى. ولقد وجدت أنّ أفضل وسيلة للإجابة عن هذا السؤال هي بالنظر في
العلاقة بين الوعي والإحساس بالهوية والانتماء، من جهة، وبين الجغرافيا والتحولات
في الواقع المعاش، من جهة أخرى. فالإجابة عن السؤال أين نحن يترتب عليها إجابة عن
السؤال من نحن، والعكس صحيح. والعلاقة هنا—بين الهوية والمكان—ليست ميكانيكية بل
فكرية ووجدانية-شعورية، توجب التأمّل والتعبير الإبداعي، كما أنّها سياسية توجب
المعاينة المنهجية والحوار.
2.
لم تقم إسرائيل باحتلال أرض الجولان وإفراغه من سكانه بالقوة من أجل توسّعها
الاستيطاني فحسب، بل قامت أيضا بمحاولة صنع وعي خاص بنا. لقد أرادوا لنا أن نتبنّى
هوية طائفية معادية للهوية الوطنية السورية والقومية العربية. أرادوا لنا أن نفكر
ونشعر أننا كدروز لسنا عرباً، وأننا لم نعش في جغرافية وطنية قبل الاحتلال، بل في
بحر من العداء السُّني. زعموا، وزعم قسم منّا معهم، أنّ المنطق وواقع الحال يوجبان
علينا ربط مصيرنا بمصير إسرائيل. روّجوا لسخافاتهم المعهودة: أنّ هذه أرض إسرائيل
وقد حُرِّرت من احتلال أجنبي! وجعلوا أطفالنا ينشدون لعيد استقلالهم ويصفقون
لحاكمهم العسكري، وفصلوا من معلمينا الوطنيين من رفض مشروعهم الأيديولوجي.
روت لي السيدة هالة غانم (فخرالدين) عن تجربتها كتلميذة في الصفوف الابتدائية في
مطلع السبعينات، خلال مقابلة شفوية، أجريتها معها صيف عام 2004 ضمن مشروع تأريخ
شفوي. قالت: "كانوا يجبرونا أن نعمل حفلة عيد استقلال كل سنة، نقدمها أمام وزير أو
مفتّش، حتى ولو كانت مجرد مسرحية هزيلة... كانوا يوقّفونا ويجبرونا أن نغنّي. ما
زلت أتذكّر كيف صيّح عليّ المعلم وقلّي: ما بدكم تشاركوا بالحفلة؟ قلت له: أية
حفلة؟ ويومها فنّجر عيونه وصيّح وأرعبني وأجبرني شارك بالحفلة. أنا اشتركت بحفلة
عيد استقلال إسرائيل لمّا كنت طفلة، ويومها جد رجفت وكنت أول مرة بعرف شو يعني
خوف."
لكنّها روت أيضا عن مشاعر الفخر والاعتزاز يوم أخرجها من المدرسة مع زميلاتها
مجموعة من الشبان للسير في مسيرة الحداد الشهيرة يوم وفاة الزعيم المصري الكبير
جمال عبد الناصر. وقد روى لي السيد أسعد الولي (أبو محمود) قبل وفاته، في سياق
مشروع التأريخ الشفوي المذكور صيف 2004، فقال: "بدأنا مجموعة من الشباب بمشاورات مع
الكبار من أجل أن نعمل مظاهرة. كان الخوف مسيطر على الناس. كنا أحد عشر شخصا. وقفنا
بمدخل الساحة عند بيت أبو رجا، وكنا بتنسيق مع طلاب المدرسة بثانوية مسعدة. كانت
هناك مجموعة طلاب جديين... طلعوا من المدرسة ولحقهم المدير والبوليس لكن ما رجعوا.
لما دخلوا الساحة بدأنا نمشي وبدأت الناس تلحق بعضها. خلال نصف ساعة نزلت البلد
بكبيرها وصغيرها... مشينا نحو مقر الحاكم العسكري في المستوصف [القديم] ورجعنا إلى
الساحة. كانت الجيبّات واقفة في موقع بيت التل وأطلقوا الرصاص على الناس. كان هناك
اختيار فقير بجانب المدرسة، أخوه كان من حملة البيرق [أيام الثورة السورية الكبرى
ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925]، ولما رفع الضابط رشاشه تقدم نحوه ووقف بصدره أمام
الرشاش وقال له أطلق النار. الضابط فقد أعصابه، انهار. ولما أطلقوا النار على
الناس، كان المركز السوري مقابل عين التفاحة وبدءوا بإطلاق الرصاص على موقع بيت
التل وأخرسوهم... اعتقلونا وقدمونا للمحاكمة وخلال نقاش المحكمة سألني المدعي العام
من أنت يا أسعد؟ قلت لها أنا مذهبي درزي وقوميتي عربي سوري... طلب سجني ثلاث سنوات،
فقط لأني قلت أنا عربي. أنظر في الفارق بالنسبة للحركة الوطنية بين تلك الأيام وهذه
الأيام."
3.
تزامنت تلك الأحداث في سنوات الاحتلال الأولى مع المشروع الاستيطاني على أرض
الجولان. لقد أرسلت إسرائيل طلائع مستوطنيها منذ الأسابيع الأولى للاحتلال. أقاموا
في جانب من القنيطرة المهجّرة (قبل تدميرها شبه الكامل من قبل القوات الإسرائيلية
عشية الانسحاب منها عام 1974). ثم توالت المستوطنات في أرجاء الأرض المحتلة وكانت
تقوم على أساس مخطط استيطاني متكامل أرادت منه إسرائيل والوكالة اليهودية العالمية
تحويل الجولان خلال عشرة أعوام، أي بحلول سنة 1978، إلى إقليم يهودي يعيش فيه قرابة
30 ألف يهودي في بلدة مركزية (اقترحت بدءً القنيطرة ثم اختيرت قصرين نظرا لموقعها
وسط الجولان) بالإضافة إلى 10 ألاف موزعين في قرى أو تعاونيات زراعية تتلاءم
بأنظمتها الاجتماعية المختلفة مع تيارات أيديولوجية متنوعة في الحركة الصهيونية.
وقد أُخذ بالحسبان في تلك المخططات وجود "20%" من السكان لا ينتمون إلى الشعب
اليهودي، أطلقوا عليهم أسم "أبناء الأقليات". هؤلاء هم نحن. تذكُرنا تلك المخططات،
بنسخها المتكررة حتى اليوم، بكلام عابر لكي تتكتم عن وجودنا وتقلل من أهميتنا،
وتسكت عن التبعية الاقتصادية والإدارية والسياسية الذي تريدها لنا مع الحيّز
اليهودي. ففي صناعة جغرافية الاستيطان هذه نخضعُ لأدوار عديدة غير محكي عنها علناً:
أن نوفر قوى عمل رخيصة وغير منظمة للسوق اليهودي وأن نعيش في بنى تحتية رثة ونحصل
على الحد الأدنى من الخدمات وأن نفكر عن أنفسنا أننا "أبناء أقليات" ننتمي إلى
معازل خاصة دون وعي وطني بالجولان كأرض سورية محتلة. وفوق ذلك كلّه علينا أن ننسى
تاريخنا وأن نرى أنفسنا بالصورة التي يرسمها لنا المستعمر على هواه. ولقد وظفوا
نظام التعليم ونظام الحكم العسكري لممارسة القمع السياسي والتبعية الاقتصادية
والتسلط القانوني والإداري خرقا واستهزاء بالقوانين والأعراف الدولية، لتنفيذ
مخططهم هذا. لكنهم واجهوا مقاومة شعبية، أصبحت إرثا مجبولا في تاريخنا وهويتنا ونمط
حياتنا وواقعنا الاجتماعي والاقتصادي.
4.
جاءت مسيرة الحداد على رحيل عبد الناصر تذكيرا مبكرا وعفويا بالرفض الشعبي للمشروع
الصهيوني. وتزامنت مع اعتقالات في صفوف الوجهاء والناشطين الوطنيين، ومع نشوء حركة
العمل السرّي المقاوم، ثم اتخذت أشكالا أخرى أهمها مواجهة سلطة المؤسسات المدنية
الإسرائيلية كالهستدروت ومؤسسة ضريبة الدخل والمجالس المحلية والمحاكم المذهبية
وكذلك مواجهة قانون المواطنة لعام 1978 الذي سبق إعلان ضم الجولان عام 1981. لكن
ذروة المقاومة الشعبية جاءت إثر قرار الضم، في الإضراب الشهير في 14 شباط عام 1982
رفضا للمواطنة الإسرائيلية، حين أعلن أهلنا بوضوح تام أن "الجولان عربي سوري" وأنه
"لا بديل عن الهوية السورية". لقد حققوا موقفا مصيريا لنا جميعا؛ فلقد نشأ وعي وطني
جديد خلال عقد الثمانينات له طابع المشاركة الجماعية، مازلنا نعيشه بقوة، حتى ولو
تلمّسنا فيه الظل الثقيل.
5.
في مطلع التسعينات نشرت الجمعية العربية للتطوير، حديثة العهد آنذاك (الجولان
للتنمية الآن)، خارطة للقرى السورية المدمرة في الجولان المحتل تذكيرا بالجغرافية
البشرية الأصلية للمكان وبالوعي الجغرافي المقاوم لجغرافية الاستيطان. أذكر أني حين
رأيت تلك الخارطة لأول مرة شعرت بتنبّه لأمر غاية في البساطة والأهمية في آنٍ معا.
أوّل ما تذكرته كان أحاديث المسنّين التي تصف أرض الجولان كأرض عربان وشركس،
وبالتالي تجعل كلّ ما هو خارج مكاننا الخاص يبدو وكأنّه ليس لنا وليس من شأننا. إنّ
أهمية تلك الخارطة تكمن في قولها إن الجولان المحتل حيّز وطني سوري ننتمي إليه بقدر
ما ننتمي لقرانا أو للوطن الأكبر، حتى ولو كانت حقوق الملكية فيه تعود لمواطنين
سوريين آخرين مهجرين. هذا أمر منطقي: فإذا كانت هذه حديقتي وتلك حديقة جاري، فإن
البلد كلها بما فيها المساحة التي تقع فيها حديقتي وحديقة جاري معا، هي حيّز عامّ
ننتمي له جميعنا ولا يعود لأحد منا حصراً.
6.
يثير الفارق بين الخاص والعام الفارق بين الهوية التجريبية الوجودية والهوية
الوطنية، بين العيش اليومي تحت سلطة جغرافيا الاستيطان والوعي بالسيادة السورية
الأصلية على هذا الأرض. ثمة في هذه المعادلات بعدان ثابتان: الهوية الوطنية وحق
السيادة. أما الوعي الوجودي والتجربة الشخصية فيشكلان البُعد الذي يجب البحث فيه
على صعيد الفرد والشرائح والتيارات والمشاريع الاجتماعية المختلفة وربطه بالبعد
الثابت. كيف كان البعد الثابت في هويتنا ذخرا ودعما لتجاربنا المعاشة؟ ما هي
التضحيات التي قدمناها للحفاظ على الثابت؟ ما هي الضرائب التي ندفعها غبنا وتعسفا
من أجل أن نحافظ على كرامتنا السياسية ونمونا الاجتماعي والاقتصادي؟ ومن واجبنا
أيضاً أن نسأل: ما هي القوى التي تحاول مصادرة المتغير والمتعدد دكتاتوريا، جاعلة
من البعد الثابت ظلا ثقيلا، بدل من أن يكون عنوانا للكرامة ودفعا نحو مستقبل إنساني
أفضل؟
7.
هذه الأسئلة ليست مطروحة على أحد بمفرده ليجيب عنها؛ إنها أسئلة تقع على عاتق
الجميع، عمالا ومزارعين ومهنيين، رجالا ونساء وشبان، لأنها تكمن في جوهر المسألة
التربوية التي يواجهها الفرد منا مع ذاته وذويه. أرى أنّ ما يجب التأكيد عليه حين
يطرح المرء مثل هذه الأسئلة هو المبدأ التالي: إذا كان البعد الثابت شاملاً، فإن
البعد الوجودي متغّير شخصي واجتماعي، وهو الجانب الذي يقوم على منطق التجدد والتبدل
ولذا فهو يوجب النقد والإبداع الشخصي والجماعي. إن العلاقة بين البعدين بحاجة إلى
تسامح وسعة صدر وآفاق. إن الاستبداد يظهر أول ما يظهر في قمع الاختلاف والتعدد على
صعيد الثقافة والتجربة الشخصية. إنّه يتذرع بالثابت لفرض الرأي الواحد المتسلط على
أشكال الحياة وضروبها فيصبح ظلا مقيتاً. إن الإخلاص للهوية ببعدها الثابت يقتضي
السعي إلى إغناء التجارب الوجودية التي تعمق الانتماء والهوية في نفس الإنسان
التواقة إلى التثقف والانفتاح وفي كيانه الاجتماعي المتحول.
8.
لا يمكن وصف واقعنا تحت الاحتلال بالصفات السلبية فقط: إظهار جانب المعاناة فيه دون
جوانب التفتح والحركة والحياة المنبثقة فينا وفي أطفالنا وأجيالنا القادمة رغم كل
الصعاب. إن قوة الحياة التي فينا ليست مِنّة علينا من أحد سوى بارينا، وإن من
واجبنا خدمتها عبر تحسين الأشكال الاجتماعية التي تتخذها. المدرسة والحديقة العامة،
وأدب قيادة السيارة، والعيد، والعرس، والمحاضرة العامة، والحفلة الموسيقية،
والمسرحية، والنظام الصحي، وما إليه، كلّها أشكال اجتماعية لطاقة الحياة. إنّ من
يسعى للنظر في داخله يدرك كيف يكون السعي من أجل شكل اجتماعي أفضل للحياة. إن
السؤال الأكثر حساسية الآن هو أيّ من المعيقات لحياة أفضل تأتي من الاحتلال ومشروعه
الأيديولوجي وأي منها يأتي من قصورنا نحن؟ يخطئ من يعتقد أن أحدا منا بمقدوره
الإجابة عن هذا السؤال بمفرده؛ إذا أردنا أن نعمّق انتماءنا وأن نثري هذا المكان،
بما يحفظ إرثنا النضالي ويؤازرنا على تحدي العيش تحت الاحتلال، علينا اعتبار هذا
السؤال مساحة لتفهّم أطيافنا واختلافاتنا والتسامح.
عقب على المادة |
لا توجد تعقيبات حاليا |