أن نكون أو لا نكون...
داوود الجولاني - اسم مستعار - الاسم الحقيقي محفوظ لدى موقع
جولاني
02\03\2008
قال معلم اللغة الإنكليزية للسيد المدير أن
شكسبير عميد للأدب العالمي، وأن تدريس مسرحية تاجر البندقية وتمثيلها من قبل
التلاميذ يعمق الإحساس بالإخلاص والتضحية من أجل الأصدقاء، وينفرهم من الظلم...
فرد المدير عليه: "إن كلامك مجرد هراء، فبمدرستي لن أعلم أحدا مسرحية تشجع
المتاجرة بالبنادق". ورغم محاولة الأستاذ التأكيد لمديره أن البندقية هي اسم لمدينة في ايطاليا،
ولا علاقة لها بأنواع السلاح، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً. فخرج الأستاذ من مكتب
المدير وهو يجر قدميه جرا. فقد كان يظن أن المدير استدعاه من أجل شيء آخر تماما،
ونسي هو من فرط خيبته أن يفاتح المدير بالموضوع المهم الذي يشغل فكره.
فقبل ليلة واحدة، عندما كان يجلس في الشرفة هو وخطيبته، وبعد أن حضرت لهما فنجانين
من القهوة، وهما يرشفانها كما يرشفان الهواء البارد والمنعش الذي يمر أمام وجهيهما،
أخبرها، وهو يتابع بعينيه كيف تترك القهوة لونها فوق شفتيها، أن معلم اللغة
الانكليزية المسن وصاحب الخبرة قد خرج للتقاعد، وأن المدير قد استدعاه للمثول بين
يديه، وهذا يعني أنه سيعلم هذا العام نصابا كاملا من دروس اللغة.
هي فرحت له ولها، وشدت بأصابعها علي يده وهي تقول: "انك تستحق هذا. فمنذ خمس سنوات
وأنت تعلم اثنتي عشرة حصة فقط ، رغم أنك أحق من غيرك. فمن مثلك يحمل شهادة
الماجستير في اللغة الانكليزية وأدبها.
وقبل أن ينصرف من عند خطيبته شجعته بأن سألت: أما زلت تحب لون القهوة...؟ فقبلها
ونزل الدرج ركضا وهو يجيبها: "سنتزوج العام القادم فمرتبي سوف يزيد النصف".
كان فعلا يظن أن المدير استدعاه ليبشره بأنه في هذا العام سيعلم خمسة وعشرين حصة.
ولما لا، فمعلم اللغة قد خرج للتقاعد ولا يوجد أحد غيره يشغل هذا المنصب. لذلك قرر
العودة إلي المدير وهو يحدث نفسه: "إذا كان المدير لا يعرف شكسبير فسأحدث التلاميذ
عن كاتب آخر لا بد للمدير أن يعرفه. سأحدثهم هذه المرة عن شارل ديكنز، وإذا لم
يعرفه سأحدثهم عن روبين هود، وإذا لا يعرفه سأحدثهم عن عروة بن الورد، فربما يكون
مديري يكره الانكليز ويحب العرب، وإذا لم يسمع بابن الورد هذا فسأحدثه شخصيا عن
هيفاء وهبي. وإن سمح الله، والله لا يسمح، وتبين لي أن مديري لم يشاهد كليبات <هيفاء>، فسأترك
مهنة التعليم".
دخل غرفة المدير دون أن يطرق الباب. فقد كان الباب مفتوحا كما تركه. ولأن المدير كان
يتحدث بالهاتف فهم بعد إشارة من يده أن عليه أن ينتظر، فجلس منزويا فوق كرسي أكبر
من حجمه، وأخذ يسترق النظر حينا للمدير وحينا للغرفة. فثمة في الجدار الذي يقع خلف
رقبة المدير الغليظة صورة لرئيس دولة إسرائيل، وعن يمين
رقبته صورة للحائز على جائزة نوبل للسلام، المغفور له قتلا <إسحاق رابين>، وعن يسار
الرقبة صورة للمفتش السابق للتربة والتعليم في الجولان <أهرون زبيدة> وهو يقدم
ميدالية ما للمدير
ذاته، وأمام رقبة المدير، وقدام بطنه الذي حط علي الطاولة مثل بطة سمينة جلست في
بقعة ماء، علم صغير لدولة إسرائيل.
"ما شاء الله، وما أشد حكمته، فقد صارت رقبة المدير مرجعا لتاريخ السياسة والتعليم
في الجولان
منذ عام 1967.. ولكني لا أري صورة القائد موسى عطار!!".. وجال بنظره في زوايا
الغرفة.. "لعلها سقطت تحت غبار
حذاء عاملة النظافة" - هذا ما قاله أو فكر فيه إلى أن بادره المدير بالكلام،
بعد أن وضع سماعة الهاتف، فشعر بالارتياح؛ لا لأن المدير بش بوجهه بضحكة أظهرت أسنانه
السوداء البشعة مثل لون عصارة الشاي، من كثر شرب السجائر والكحول، وإنما لأن صوت الكلام
من حنجرة المدير أخرجه من الحالة التي فرضتها صور جدران الغرفة، وتنهد بصوت خافت
بلع نصفه، وزحف يعيد مؤخرته إلى الوراء معتدلا في جلسته فوق الكرسي، كمن يتسلل خارجا
من معسكر.
قال المدير: "إني يا عصام مدير لهذه المدرسة منذ ثلاثين عاما، ولم أتقاعد إيمانا
مني أن التلاميذ بحاجة لمدير صاحب تجربة وحكمة، ولا تظن أني لا أهتم بالأدب
واللغات، فاني قرأت مذكرات تشرتشل وروزفلت، وقرأت كل كتب سلمان فلاح، <وابن غوريون>،
وإني أدرك أنك معلم جدير وقدير...".
عند هذه الجملة الأخيرة شعت عينا عصام ببهجة سريعة، وتورط بأن قاطع المدير قائلا: "
نعم أعرف يا سيدي أنك تقدرني، وأنك استدعيتني هذا اليوم لا للكلام عن شكسبير، وإنما
لتزيد لي حصص التعليم كما وعدتني".
توقف عصام عن الكلام، كما كان قد توقف المدير، وساد صمت تخلله إخراج المدير لزجاجة
من "فودكا إمبريال" من درج مكتبه، وسكب لنفسه قدحا، وهو يوجه كلامه
لعصام: "أنت تعلم يا عصام أن فلان بن فلان قد عاد من الولايات المتحدة الأسبوع
الماضي، وهو يتكلم اللغة الانكليزية مثل الأمريكان أنفسهم، لذا فقد قررت تعيينه معلما للغة
الانكليزية".
كانت الصدمة قد أخرجت عصام عن طوره، فرد بكلام خرج من حلقه مخنوقا بجرعة الفودكا
التي صبها المدير في جوفه: " هل عينت ابن فلان..؟ أنه درس علم الكيمياء وليس اللغة
الإنكليزية.. هل أصبحت الـ <واسطة> أهم من مصلحة التلاميذ؟!"، ثم أفلتت من فمه وقلبه
وعقله وروحه كلمة استشاط المدير علي أثرها غضبا، كمن كان ينتظرها، لتخرجه من الإحراج
الذي هو فيه.
فقال ردا على عصام وقد وقف من كرسيه: "هذا الموجود، وإذا كان لا يعجبك فقدم استقالتك
فورا. وإياك أن تقول <طز> على فلان أمامي مرة ثانية". ثم سكب في جوفه جرعة أخرى من
الفودكا، وهذه المرة من الزجاجة مباشرة، وقبل أن يعاود الجلوس فوق كرسيه
سمع بعضا مما قاله عصام وهو يخرج: "أنا لن أستقيل وسأبقى أعلم التلاميذ، وسأدرسهم هذه
المرة مسرحية هاملت، وستسمعهم في الفرصة والدرس والشوارع يرددون: أن نكون أو لا
نكون...".
عقب على المادة |
لا توجد تعقيبات حاليا |