"منفيون
بقوة الحضور"
نضال الشوفي - 07\03\2008
لدى بعض (المثقفين) كل الأسباب الصحيحة كي يكونوا في المكان الخطأ، لكن حقيقة
الأمر، أننا عندما نبحث عن هؤلاء، لن نجدهم إلا فوق الشجر، وأن ما نفتقد على الأرض
هو جنس آخر من المثقفين، لا يتساوون مع هؤلاء إلا نسبياً، وبمعيار واحد على الأقل،
هو أن المثقف: ذاك الشخص الذي يتعدى نتاجه من الأفكار، محيطه الشخصي إلى المحيط
العام.
إن هذا المنطق سيُجاوز مفهومنا عن ذاك (المثقف)، الذي يرطب خطابه بكلام غير معهود،
وغير مطروق، ويتوسع إلى مؤدى الخطابة، والكتابة، وضروب الفنون الأخرى أيضاً، وهو ما
يدعو للنظر في وظيفة المثقف، والمخاطر الناجمة عن دوره، ونشاطه العام. التاجر مثلاً
يرتب عن أخطائه في العمل خسائر مادية قد يعوضها، والطبيب يرتب عن خطأ جراحي يقوم به،
حياة شخص فرد، أما المثقف فرهانه على مجتمع بكامله، وهو ما يدفعنا للنظر أبعد من
مدى الانتشار الذي يحظى به، إلى النمط الوظيفي الذي يؤديه، وما يؤول عنه من نتائج.
في الأزمات المحلية يطالعنا على الدوام (مثقف مجنح)، يؤكد حضوره في المشهد العام،
عند حدوث إشكال ما، ثم يطير إلى شأن آخر. لا يترك وراءه معيار، ولا مفهوم بعينه،
ولا ثابت واحد، سوى سوء (تدوير) الحوار. ولا يساهم أيضاً، إلا بتشويه شخصية المثقف
الرمز. لكن الأسوأ من هذا كله، أنه عمل بقوة على مدى سنين، في إسقاط المؤسسات
التقليدية الموروثة دون أن يراكم وعي يحقق البديل، ليساهم بذلك في تحويل المجتمع
إلى شراذم.
ليس المطلوب عند غياب الراعي الأصيل للثقافة (بتداخلاتها الاجتماعية المختلفة)، أن
نكتفي بالنقد، أو الرثاء، أو حتى التشبه بالعمل المؤسساتي، ونقل التقليدي من
المفاهيم لداخلها، وتأكيد الأنا عبر المصلحة الشخصية وتحويلها إلى مطية. إنما
المرجو خلق البديل الممكن عن الأصيل الغائب، وعن الماثل في النشاط الاجتماعي
التقليدي، (إن لم يكن فيه جدوى)، لعلنا نتشبه هذه المرة بالمجتمع المدني، أو
المجتمع الأهلي، ونبدع فهماً جديداً في التعاطي مع الشؤون العامة على أساس
المشاركة، والتوسع أيضا في طرق الضرورات المهملة والمركونة جانباً، فقط لأن
الأولويات كانت وما زالت سياسية محضة، وآنية ملحة دونها بئس المصير.
إن ما دار سابقاً من حوار، هو في إشكالات تتعلق أصلاً بغياب دور المؤسسات، وتنتج عن
هذا الغياب. لذلك، فالأجدى أيضاً الحوار في كيفية حضور هذه المؤسسات، وفي من يحقق
فعالية هذا الحضور، خاصة أن النموذجية التي تجعل من مجتمعنا صالح للمقارنة والقياس،
هي في بعده عن القبضة المباشرة للأنظمة، ما يجعل منه معيار أدق للقدر الذي يمّكن
هذه الأنظمة من ترسيخ التخلف بين رعاياها، ومعيار آخر لمدى اختراق المثقف للبنى
الاجتماعية الموروثة، والتأثير بها، أو التماهي بداخلها، ولعله معيار لوجود المثقف
من عدمه، ذلك إذا استطاع التفاعل ضمن الحراك الاجتماعي المتراجع باستمرار، وبث قيم
العلاقة النفعية بين شرائح اجتماعية أوسع، والمؤسسات التي وجب أن تطرح نفسها بديل
لسلطة الاحتلال الإسرائيلي، وللسلطة الوطنية المتغيبة منذ عقود. لكنها،(أي المؤسسات
المحلية)، لن تنجح بذلك إذا لم تقارب حدود معينة في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع
في مختلف المجالات. هنا بالذات يكمن المعيار الأخير، أي وجود النخبة الثقافية، وإن
لم تكن، فالجميع متقاربون في الوعي، ودعونا نترك الصراعات الأيديولوجية جانباً،
ونلتفت إلى الشؤون الحياتية.
عقب على المادة |
لا توجد تعقيبات حاليا |