حلم الشيخ
سليمان أسعد الحلبي – 27\04\2008
(قصة حقيقية)
جاء الجلاء، وما الجلاء إلاّ انبثاقاً لفجر الحرية الغراء، فاتحا ذراعيه ليمسح غبار
الذل عن جبين المقهورين من أبناء الوطن العزيز. طلع الجلاء من عتمة ليل الاحتلال
لتشرق شمس الحرية من جديد على ربوع سورية الحبيبة وليعود المجاهدون إلى الديار. أما
من قضى شهيداً فأجره عند الله عظيم، لأن أولائك الشهداء الذين دفعوا أرواحهم ثمنا
لحريتنا يستحقون ذلك. فالله قد أراح أجسادهم ونفوسهم لينقلها إلى جناته، وكأنه عز
وجل لا يريدهم أن يشهدوا استعماراً آخر، ولا نكبة أخرى، ولا نكسة عظمى...
تحررت الأوطان ومرت السنين وزالت الجراح مخلفة في الذاكرة جراحاً أخرى، ليستفيق
الوطن في السابع والستين وتسعمائة وألف على تلك النكسة التي أعادت إلى الأذهان أيام
الاستعمار الأول. وقعت الواقعة، تشرذمت القوى وساد الإحباط وتلاشى الأمل ليدخل
الوطن الصغير في غيبوبة ومعه جزء من الوطن العربي الكبير... ماذا أصاب تلك القلاع
الصامدة على مر التاريخ تصد غزاة الأوطان؟
...
عندها كنت صغيراً أبلغ من العمر أربعة أعوام. بدأت أمي تفتح جراح الحاضر والماضي
معاً، وتقول وتشتكي بحسرة وحرقة: "يا فلان الله يساعدنا على الأيام القادمة".. "خلص
من عنا القمح والطحين".. "يا ذلي يا أمي خلص من عنا الطحين"...
... أخذ الاحتلال شيئا فشيئا يسلب الأرض التي اقتطعها من الوطن، وبدا الجميع
يتأقلم، أو يتعايش مع الظروف التي قد فرضت عليهم. أما القمح والطحين فعادا إلى "كوارة"
أمي.
أبي المحروم من ورثة جد فقير كبر حلمه، استجمع قواه واقترض بعض المال، وباع شيئا من
القطيع الذي كان لديه، واشترى تلك الأرض الحلم علها تساعد على قهر الفقر وسنين
القلة ليستر الحال والعيال. فزرعها. وعاماً بعد عام أخذت أغراس التفاح تتعالى
وتسابق الأيام، وأبي ينظر بلهفة لأن تدر ثمارها، ويخاطب أمي ليقول لها على مسمعنا:
"آه يا بنت الحلال، هذا صار عنا أرض وسنة الجاي ببشرو، وما بتحسي وتدري إلا وإنت
عبتحوشي هالتفاح"...
أمي: "الله كريم. حاجي ولادنا يْطَلْعوا بالناس وبلكي يبطلوا يرعوا بالجدا بالجبل.
هيك صاروا ينزلوا على عين القصب نزول".
وكأنما تحقيق الحلم بات محتوماً. وفي تلك الليلة ذاتها، بينما كنت نائما بحضن
والدي، ورأسي على صدره أسمع خفقان قلبه المثقل من تعب الأيام وشقاء السنين، أسمع
روحه الحزينة، أطبقت على صدره المنهك ليستفيق على صوت بكائي ويهزني بضمة إلى صدره
ويقول:
"شو بيك يا بنيي"؟ وبدأت أسرد له ذلك المنام، وأنا أبكي عمي محمود: "عمي محمود يا
بيي".
أبي: "مين عمك محمود يا بنيي"؟
"عمي محمود.. شفتو يا بيي واقع بخلقينة القمح والمي عم تغلي واني وقعت وراه"...
وعندها انهالت على وجهي دموع أبي وكأنها تقول لي لماذا يا ولدي تنغص علي فرحتي
بقدوم موسم التفاح. وكأنه فسر ذلك المنام وأخذ يردد بصوت خافت: "نام.. نام يا بنيي
لا تخاف، هذا منام.. نام يا بنيي.. عمك محمود نايم بين ولادو متل ما انت نايم
بحضني.. الله يكفينا الشر..".
خفت من صوته وهو يردد تلك الكلمات وعدت أثقل صدره من جديد، أترنم على صوت الأنين
الصادر من حنجرته.
ولم يمض على ذلك الحلم اللعين إلا أيام لتقع حرب تشرين 73، ويسقط عمي محمود شهيدا
بينما كان يرعى قطيعه قرب البلدة، مثلما كان يفعل أبي. كانت "حله" الماء الذي يغلي
هي الرصاصات التي أصابته... وعدت لأبكي عمي محمود مرة أخرى.
لقد سقط شهيدا برصاص حرب لا ترحم، أما أبي ربما نسي أو تناسى ذلك الحلم عله لا
يتذكره في حياته، فبقية الحلم الذي رويته له لم تنته بعد. بات يخبئها في صدره علها
تكون قد فديت بمصيبة واحدة.
وعاد ذلك الحلم الملعون يطاردني من جديد، واستفاق الجميع مثلما في المرة الأولى
وبنفس التفاصيل والحالة السابقة. وخيم صمت رهيب... أما أبي فلم يذرف الدمع الآن، بل
بالعكس، صاح مشدودا متماسكا، وتلك هي أول مرة في حياتي أراه مشدود الهمّة، وقال
بصوت عال النبرة:
"عمك محمود توفى يا بنيي.. مات.. مات... قلي حكيلي شو شفت بالمنام بعد. حكيلي"...
وإذ بابي افرغ كل هم السنين في تلك الكلمات التي رددها بعزيمة منقطعة النظير، وكأنه
يقول علها تطبق الدنيا على بعضها البعض ليرتاح من ذلك الذي نغص عليه عيشه.
وتابع:"آه آه احكيلي بقية المنام". وتابعت أقص ما رأيته بمنامي: "شفت.. شفت.. لأ..
دعست على لغم واني عبقطف التفاح من أرضنا هونيك حد الصخرة"...
...
وبعد صمت مطبق تفوه أبي بعدة كلمات، فهمت منها: "الأرض على خط وقف إطلاق النار ومش
راح ناكل منها تفاح يا مره، والمكتوب علينا الشقى والتطليع بالناس، وبدل ما ينزلو
نزول رح يضلوا على صخرات الجبل"...
وكأنه حل "الشيفرة". ما صنع الزمن بابي ليس بالقليل، ومثلما سقط عمي محمود شهيداً
أضحت أرضنا الوحيدة التي لم نملك غيرها أسيرة. لم يتذوق أبي طعم ثمرها، مثلما نحن،
زرعها شجراً ليجني حسرة وتثمر ألغاماً قاتلة يذهب ضحيتها الأحبة... ننظر من بعيد:
ذلك هو كرمنا. تلك هي أرضنا. "يا غبن قلبي على تعب السنين وهيك نكتب على الجبين".
عاد أبي مخذولا يرافق القطيع من مشرقها إلى ساعات المغيب، دون كلل، لتعود إلى
الأذهان كل النكسات معا. وأخذ يشيخ وأبهتت الأيام زرقة عينيه، وكأنه لم يشتم عبق
نيسان، وكأنما لم يتذوق ثمر تشرين!!.. أبي، ماذا جلبت لك في حلمي هذا؟ وحلمي لم
ينته بعد.... القلوب أسيرة أسوة بقلوب أمثالنا، والأرض كذلك أبت أن تتعالى، أبت ان
تتعانق، ربما في عناقها نار الهشيم... آه لزرقة عينيك الحزينة يا أبي، رحلت وأنت
تلمم الحروف وتقول: "إياك يا بنيي اذا فتح الشريط ان تدخل ارض العين قبل تمشيطها
مرة وثنتين وتلاثة"، وكأنما وهو يلمم أحرفه الأخيرة أدركت أن الحلم لديه لم ينته
بعد...
ذهب شيخي، ذهب أبي وهو يرى احمرار ثمر التفاح في بستانه من بعيد...
أبي، أنت أورثت لي بساتيناً، أما انا فأورثتك مناماً..
ولم ينته الحلم الشيخ بعد...
عقب على المادة |
لا توجد تعقيبات حاليا |