لعلهم يحلمون أن يصبحوا ذات يوم شهداء
نضال الشوفي - 17\05\2008
فاضت عتمة الليل على نهار خريفي غائم، فنهضت متثاقلاً، مسالك وجهي قاسية، صعبة
الولوج، وشعري عشب رطب موطوء. ذاك ما بثتني أطراف أصابعي، ومرآة بيتي البارد، قبل
أن ألوب في حجراته مضطرباً، كما بالأمس.
لذاكرتي هذا الصباح، روائح كثيرة، تغلب عليها رائحة فنجان القهوة الأول، ورائحة
الموت المؤدلج بالخطابة، لعلهما النهاية والبداية لجميع أفكاري الساخطة من واقع
الأمور. أتحايل على خدري، وأحرك قدماي في أعقاب ركوة القهوة، وأنفض رأسي المختّض
بزحام كوابيس الليل، كي استعيد تفاصيلها المزعجة، علّي أستعيد الشعور بالأمان. أرى
انفجارات تحرث المباني والساحات بتراتب مدروس، ورصاص يثقب قوس السماء، ويمزق اللحم
الطري لطفلة دفعها الفضول، وربما الإحساس الخفي بدنو الأجل، إلى النافذة، أرى وجوه
حائلة اللون، تنشج الدمع، أخاديد تصب على الأعناق، واسمع أحاديث كثيرة تردد كلمة
شهيد مرة تلو مرة تلو مره... أنفض رأسي المختّض بالكوابيس من جديد، فأكتشف أن للخوف
وجه آخر، رحيم بعض الشيء، وعادل، ومساير. تلك عدالة الخوف في الأحلام، كلما اشتدت
وطأته، أوعز باليقظة، وأزاح يديه القابضين على عنق النائم. تسللت المشاهد من
التلفاز، والمواقع الإلكترونية في عتمة الليل إلى طرف وسادتي، ثم إلى رأسي. شهيد
يَقتل شهيداً ثم يُقتل بيد شهيد، وأنا حائر، هل أصدق جلافة الشهداء؟ هل من شهيد
يروج الأكاذيب؟ يقتل بضراوة الوحوش، وبرودة الصقيع، وبيتي الموحش هذا، ثم يسلم
النفس، معلناً الرحيل إلى جنان هادئة في مكان ما
أرشف القهوة من فنجاني الأول، وأقلب المشاهد في رأسي من جديد، أرى أطفالاً يصنعون
على عجل، بنادق من خشب، ومدافع خفيفة من أغصان الشجر، لعلهم يحلمون أن يصبحوا ذات
يوم شهداء.
أشعر بالضيق واليأس وقلة الحيلة، فألوذ هذه المرة بالكتابة، علّي أفك نفسي من وطأة
الخوف، وأستعيد شيئاً من الشعور بالأمان:
أبحث في بيروت
عن حانة هادئة
لا تجير الموت من الرمضاء
تحت ردمها الظليل
أبحث في بغداد
عن نانا، وإنانا، وشماش،
وإيا، وديموزي، وإنليل
عن رب أسميه المستحيل
كي يمحل الأرض من نفطها
والبحار من رياحها
والمدائن من تاريخها الطويل
ويعيد للإنسان فطرته
وللسماء غزارتها
وللسنابل لونها، ومذاقها الأصيل
أبحث في متاحف الشرق، عن رأس سرجون الكبير
أفصله تمائم
نسخ عن طغاة الأرض
جيل بعد جيل
أقايضها بدمي
الذي لا زال سبيل
لكل من عبر السبيل
عقب على المادة |
لا توجد تعقيبات حاليا |