انعقاد اللقاء السابع من " منتدى الخميس
الموضوع:"شعر محمود درويش وأهميته كشاعر فلسطين"
يوسف السيد أحمد
فيا موتُ! انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة
في الربيع الهش، حيث ولدتُ،
حيث سأمنح الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه.
سأقول: صُبُّوني بحرف النون، حيث تعبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن،
وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي.
ـ ـ ـ
وتكبر فيَّ الطفولة يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأنِّي إذا متُّ ، أخجل من دمع أمي!
محمود درويش لم يكن شاعراً عادياً ، بل هو رجل أعطى حياته للقصيدة، وعاش بها زاهداً
متصوفاً عن المناصب والوظائف، وظل حالة نادرة بين الشعراء إذ لم تأته حالة الانقطاع
التي عادة ما يمرُّ بها الشعراء.
ولم يكن من الذين يعيشون على ماضيهم بل كان دائم التجديد في شعره وإبداعه، وكان
يتسابق مع كل حركات التجديد في الشعر العربي لذلك اعتلى قمة هذا الشعر، ولم ينزلق
إلى مدارس الغموض والعنكبوتية في الكتابة، وإنما كان شعره واضحاً بلا مباشرة،
لأنَّه كان يحمل في ضميره دائماً قصيدة الشعب الفلسطيني.
أعطيت لمحة تاريخية عن حياة محمود درويش عندما نزحت أسرته إلى لبنان، وبعد سنة عادت
متخفية لتجد أن القرية التي خرجوا منها قد دمِّرت وأقيم مكانها مستعمرة، فسكنوا في
قرية مجاورة وأدخل إلى المدرسة في دير الأسد، وبعدها في كفرياسيف ثم في مدينة حيفا
القريبة جداً إلى نفسه، وبدأ بالكتابة مبكراً، فقد انضم إلى الحزب الشيوعي
الاسرائيلي مع الشاعر سميح القاسم، والكاتب إميل حبيبي والمناضل توفيق زيَّاد، كان
يكتب الشعر والنثر في مجلات كالاتحاد والجديد التي أشرف فيما بعد على تحريرها،
واشترك في تحرير جريدة الفجر.
اعتقل ودخل السجن لمدة تسع سنوات وفي سنة 1972 خرج من البلاد ولجأ إلى مصر وبعدها
إلى لبنان حيث عمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية،
لكنه عاد واستقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاق أوسلو.
شغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وأطلق مجلة الكرمل التي عام 1980
والتي انتقلت فيما بعد إلى قبرص ثم إلى رام الله وبعد ذلك احتجبت، وأقام في باريس
قبل عودته إلى وطنه حيث دخل إلى إسرائيل بتصريح لزيارة أمِّه.
حصل محمود درويش على الكثير من الجوائز منها:
• جائزة لوتس عام 1969
• جائزة البحر المتوسط عام 1980
• درع الثورة الفلسطينية عام 1981
• لوحة أوروبا للشعر عام 1981
• جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفييتي عام 1982
يعد محمود درويش شاعر فلسطين بحق، فقد حمل قضيته إلى العالم العربي، ومرَّ شعره
بعدة مراحل، ومن أهم دواوينه:
• عصافير بلا أجنحة (شعر) 1960
• أوراق الزيتون (شعر)
• عاشق من فلسطين (شعر)
• آخر الليل (شعر)
• يوميات جرح فلسطيني (شعر)
• حبيبتي تنهض من نومها (شعر)
• لا تعتذر عما فعلت (شعر) 2004
• العصافير تموت في الجليل
• لماذا تركت الحصان وحيداً
• سرير الغريبة 1995
• جدارية 2000
• حالة حصار 2002
لم يبالغ الذين قالوا عن محمود درويش أنه واحد من أكبر شعراء الإنسانية في زماننا
المعاصر مثله مثل (لوركا ) الذي كان يحبه وتأثر به، ومثل (نيرودا وناظم حكمت
وأراغون وإيلوار) فليس من الغريب أن يترجم شعره إلى كل اللغات الحية. فقد جعل من
مأساة فلسطين مأساة إنسانية عالمية هامة تمسّ وجدان كل من يؤمن بالعدل والحق.
لقد بهر النقاد والقراء بقفزاته الشعرية والنثرية المتميزة تاركاً لتاريخ الشعر
العربي لآلئ نادرة يمكن التماسها في مجموعاته الشعرية كلها. حتى في مجال النثر كان
مبدعاً، فلم يكن يهمه الكتابة بالنثر أو بالشعر بل كان يحب الجودة في الكتابة.
سنة 1965 انتشرت له قصيدة:
أحنُّ إلى خبز أمي...
وفي ديوانه: "أوراق الزيتون " ينشر قصيدته المدوية الثانية:
"سجّل أنا عربي - أنا اسم بلا لقب - صبور في بلاد كلُّ ما فيها
يعيش بفورة الغضب – جذوري – قبل ميلاد الزمان رستْ -
وقبل تفتُّح الحقب – وقبل السرو والزيتون – وقبل ترعرع العشب
- أبي من أسرة المحراث لا من سادة نُجُبِ –
وجدِّي كان فلاحاً بلا حسبٍ ... ولا نسبِ
– يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب
– وبيتي كوخ ناطور من الأعواد والقصبِ
– فهل ترضيكَ منزلتي؟ - أنا اسمٌ بلا لقب..
كان الحلم بالنسبة لدرويش عتبة أساس، وعصباً فارقاً في تطوير قصيدته، يحولها إلى
طقس شعري تمتزج فيه شتى حدوسات المعرفة بهموم الإنسان وأحلامه في العدل والحب
والحرية.
فالحلم هو الوطن في قصيدة درويش، وهو الجرح والصرخة، هو الأمل والبسمة، هو الطلقة
والبندقية، وهو أصدق واقعية من الواقع نفسه.
نلمس في قصائد درويش بوضوح الدراما كطاقة متجددة، تُخلِّص الأسطورة من خرافة
التأويل، وتجعلها حقيقة حية ملموسة على أرض الواقع اليومي المعيش. كما تتكثف مدارات
الفعل الشعري، وتعلو فعالية الحوار، في تنويع مستويات الفعل نفسه، وتقاطعاته مع لغة
المسرح وإيقاع الصورة، ودهشة السؤال الذي يصعد رأسياً وأفقياً، وفي شتى الاتجاهات،
يظهر هذا بوضوح في قصيدته الرائعة "سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا" حيث تتضافر
كل هذه العناصر في حركة الفعل الشعري، وتكتسب طابعاً تراجيدياً، لا يكشف فقط عن
قضية وطن وإنسان، وإنما يكشف عن أزمة الحلم في بلوغه مائه الخاص، وضياع وتشتت
مسارات تحققه، تحت وطأة القهر والظلم، وكل ما يلوث الحياة من قبح وفساد.. يقول
درويش في ختام القصيدة نفسها:
"هل قتلتَ؟ ويسكت سرحان يشرب قهوته ويضيع ويرسمُ
خارطةً لا حدود لها ويقيس الحدود بأغلالهِ - هل قتلتَ ..
وسرحان لا يتكلم .. يرسم صورةً قاتلة من جديد ، يمزقها ،
ثمَّ يقتلها حين تأخذ شكلاً أخيراً..
قُتلتُ - ويكتب سرحان سيئاً على كمِّ معطفه ، ثمَّ تهربُ
ذاكرةٌ من ملفِّ الجريمةِ .. تهربُ .. تأخذ منقار طائرٍ
وتزرع قطرة دمٍ بمرج ابن عامر"
وعلى جدار الحلم يستند درويش في أعماله الأخيرة ومنها (أحد عشر كوكباً - لماذا تركت
الحصان وحيداً - لا تعتذر عما فعلتَ - أثر الفراشة) . ففيها يمتزج إيقاع السيرة
الذاتية الحميمة - بمفرداتها الشخصية البسيطة، وتشابكاتها الإنسانية المعقدة -
بشهوة البحث عن جسد للحلم، جسد للوطن وللروح، وفي الوقت نفسه تتخلص شعرية المكان من
وهج النوستالجيا والاحتفاء العابر، لتتحول إلى مرثية كونية، منفتحة بحيوية على فضاء
الوجود كله.. يقول درويش في يومياته النثرية:
"هل كان علينا أن نسقط من علوٍ شاهق - ونرى دمنا على أيدينا ..
لندرك أننا لسنا ملائكة .. كما كنَّا نظن؟!
أيُّها الماضي .. لا تغيِّرنا كلما ابتعدنا عنك
أيُّها المستقبل لا تسألنا : من أنتم؟
أيُّها الحاضر تخملنا قليلاً. فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظلِّ!"
لقد كان الحلم خلاص محمود درويش الأخير، وتميمته الدائمة ضد الموت والزمن، ومثلما
جعله الحلم ينشغل بوعي الحكاية وشخوصها، وخفف عن قصيدته وطأة حمولتها السياسية
وغنائيتها المباشرة، وجعلها أنشودة حية ممتدة في الزمان والمكان. ها هو يواصل حلمه
من جديد في فضاء آخر، لا يستعصي فيه الحلم عن الولادة، ولا يكف الوطن عن دهشة
المحبة والسؤال.
خرجتُ
أطلبُ في الليل من أحبته نفسي
وضعت وشمي على جبهتي، وضمَّختُ رأسي
قابلني العسس الساري في هواء المدينةْ
فشقَّ صدري وأبقى قلبي لديه رهينةْ
بالله يا من ستلقى
في ذات يوم حبيبي
أخبرهُ أني انتظرتْ
إلى الصباحِ .. ومِتُّ 1970 (من نشيد الإنشاد)
اللقاء القادم بتاريخ 11/9/2008
الموضوع : دراسة في ديوان الشاعر محمد مهدي الجواهري