منتدى الخميس: ماذا أعطى عمر أبو ريشة
لوطنه؟
يوسف السيِّد أحمد – 26\09\2008
عقد مساء الخميس اللقاء التاسع من «منتدى الخميس» بحضور نخبة من الأصدقاء والمهتمين
بالشأن الثقافي والأدبي. وكان اللقاء بعنوان: ماذا أعطى عمر أبو ريشة لوطنه؟
عمر أبو ريشة الشاعر الوطني الذي أمضى حياته ينظم القصائد وينشر الأشعار ويحثُّ
فيها الشعب العربي على نيل استقلاله والتمتع بحريته.
أصبحَ السفـحُ ملـعباً للنسور فاغضبي
يا ذرى الجبال وثوري
إنَّ للجرح صيـحةً فابـعثيها في سماع
الـدنى فحيح سعـيرِ
واطرحي الكبرياء شلواً مدمَّى تحت
أقـدام دهـرك السكِّـيرِ
لملمي يا ذرى الجبالِ بقايا النسر وارمي
بهـا صـدورَ العصـورِ
إنَّه لم يعد يكحِّـل جفن النجم
تـيـهاً بريشـهِ المنـثـورِ
هجرَ الوكرَ ذاهلاً وعلى عينيه شيءٌ
من الـوداعِ الأخــيرِ
تاركاً خلفَهُ مواكـبَ سحبٍ تتـهاوى
من أفْـقِها المسحورِ
كم أكبَّت عليه وهي تُنَـدِّي فوقـه
قبـلة الضحى المخمـورِ
رحل الشاعر عمر أبو ريشة عن الحياة سنة 1990 بعد حياةٍ حافلةٍ، وترك وراءه أشعاراً
رائعة تجمع بين الوطنية والغزل والنقد الذاتي، وقد أجمع النقاد أنَّ عمر أبو ريشة
وقف شعره على الجانب القومي واستثارة همَّة العرب لاستعادة أمجادهم، بجانب شعره
الوجداني.
نشأ وترعرع ودرس في منطقة حلب بسوريا، ثم دخل جامعة دمشق ولم يلبث أن غادرها إلى
الجامعة الأمريكية في بيروت، وبعدها غادر إلى بريطانيا ليدرس في جامعة مانشستر
موضوع "صناعة النسيج والكيمياء العضوية"
أجاد العديد من اللغات لذلك بعد أن تعيَّن مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، اختير
أن يكون سفيراً لسوريا في البرازيل، ثم في الأرجنتين، ثمَّ في تشيلي، ثم في الهند،
وذلك من سنة 1949 حتى 1958 وفي فترة قيام الوحدة بين سوريا ومصر كان هو سفيراً
للجمهورية العربية المتحدة في النمسا بعدها عمل سفيراً في الولايات المتحدة
الأمريكية وتقاعد سنة 1971.
للشاعر عمر أبو ريشة ديوان شعري كبير، عُنيت بطبعه دار العودة في بيروت سنة 1971
ويقع في جزأين متوسِّطي الحجم، وهو فيه شاعر الوجدان وشاعر السياسة الجريئة، يجري
في شعره على نظام الكلاسيكيين، ويهمّه في الشعر وحدة القصيدة لا وحدة البيت، وهو
شاعر الخيال الخلاَّق، يخلق الصورة بعيدة الإيحاء، ويسكب فيها من نفسه ما يستهوي
القلوب، وهو مع كلاسيكيته في الأسلوب، من أسبق الشعراء المعاصرين إلى التجديد في
موضوعات الشعر وأخيلته.
وهو يعجب كيف أن الأمة العربية تغاضت، ولم تكن من قبل متغاضية، وكيف ترتضي الذل ولم
تكن من قبل ترتضيه:
كيفَ أَغضيتِ على الذلِّ ولمْ تنفُضي عنكِ غُبارَ التّهمِ
أَوَما كُنتِ إذا البغيُ اعتـدى مَوجةً من لهبٍ أو من دمِ!؟
يردُّ عمر أبو ريشة المسؤوليَّة على الحكَّام العرب، ويدعو الشعوب العربية إلى
تجاهل زعمائها وإلى توحيد الصفوف والوقوف بشجاعة وعناد في وجه كل معتدي لحماية
أرضها وكرامتها، وبهذا المعنى ينظم قصيدته المدوية والمشهورة هذه :
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو
للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلا من أمسك
المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا
كبرياء الألم
أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل
يتيم النغم
كم تخطيت على أصدائه ملعب العز ومغنى
الشمم
وتهاديت كأني ساحب مئزري فوق جباه
الأنجم
أمتي كم غصة دامية خنقت نجوى علاك في
فمي
أي جرح في إبائي راعف فاته
الآسي فلم يلتئم
ألاسرائيل تعلو راية في حمى المهد
وظل الحرم !؟
كيف أغضيت على الذل ولم تنفضي عنك
غبار التهم؟
أوما كنت إذا البغي اعتدى موجة من
لهب أو من دم!؟
كيف أقدمت وأحجمت ولم يشتف الثأر ولم
تنتقمي؟
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع
اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها تتفانى في
خسيس المغنم
ربِّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه
البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة
المعتصم
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل
طهر الصنم
لايلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي
عدوَّ الغنم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في
الحكم عبيدُ الدرهم
أيها الجنديّ يا كبش الفدا
يا شعاع الأمل المبتسم
ما عرفت البخل بالروح إذا طلبتها غصص
المجد الظمي
بورك الجرح الذي تحمله شرفا تحت ظلال
العلم
ويفتح أبو ريشة من صفحات التاريخ ما يبعث الشوق إلى المجد... ذلك كلّه بشعر كلاسيكي
رحب الآفاق، رائع الجرس، ويرى أن الشعوب العربية والأرض العربية، هي أرض البطولات،
وجنَّة الدنيا. وهو ينكرها إذا أنكرت رسالتها وأصابها العقم البطوليّ:
ربِّ هـذي جَنَّـةُ الدنـيا عبـيراً وظـلالاَ
كيـفَ نمشي في ربـاها الخُضرِ تيهاً واختيالاَ
وجراحُ الـذُّلِّ نُخفـيها عن العـزِّ احتـيالاَ
ردَّهـا قفـراءَ، إنْ شئتَ، ومـوِّجها رمـالاَ
نحنُ نهـواها على الجدبِ ... إذا أعطتْ رجالا!
ففي حفلة الذكرى للمجاهد ابراهيم هنانو انطلق يُحيي تاريخ البطولات العربية، وفي
كلامه هدير العاصفة، واندفع في آفاقه العالية يقارن ما بين الماضي المجيد والحاضر
المُخجِل، ويبسط أمام العيون مشاهد الجحافل الجرَّارة، والسّيوف البتَّارة التي
ملأت التاريخ عِزَّةً وأمجاداً، ويعاهدهم على مواصلة الجهاد إلى أن تستعيد البلاد
عزَّتها، كلُّ ذلك بأسلوب ملحمي، وبأبياتٍ وقوافي تهتزّ اهتزاز العوالي في أيدي
الفوارس الأبطال.
يا شعبُ لا تشكُ الشقاءَ ولا تُطِل فيـه نواحكْ
لو لم تكن بيديك مجروحاً لضمَّـدنا
جراحـك
أنتَ انتقيتَ رجال أمرك وارتقبت بهم
صلاحك
فإذا بهم يرخـون فـوق خسيس دنياهم
وشاحك
كم مرَّة خفروا عهودك واستقوا برضاك
راحك
أيسيل صدرك من جراحتهم وتعطيهم
سلاحـك
لهفي عليك َ ، أهكـذا تطوي
على ذل جناحك
لو لم تبح لهواك علياءَ الحياة لمـا
استباحك
وعندما صُرع الجنرال اللبناني إميل البستاني "وسافر في البحر ولم يرجع" رأى الشاعر
أن الشرق قد فقد ركناً من أركانه، فانتابه الحزن الشديد، وأسف أشدَّ الأسف لغياب
هذا الوجه الكريم ، وفقدان هذا الرجل الذي كان ملءَ أسماع الدنيا عملاً، وكدَّاً،
ومشاريع، فقال:
كيف يرتدُّ عن مداه مُرادُه وعلى
ملعب الخلود طِرادُه
فارسٌ نازلَ الليالي ، فعزَّت
بالتلاقي، جيادها وجيادُه
ما درت في الزَحام، أيُّهما أغزر
فيضاً ، عنـادُها أوعنـادُه !
فالشعر عنده ليس صوراً فارغة، وإنما هو صور مليئة بالأفراح والأحزان، مع الإحساس
الدافق بالعروبة، يحمل تاريخ شعبه وأماله وكل ما تسعى إليه من خير ومجد في صدره،
فصوره ليست واهمة ولا هائمة في فراغ، إنما هي صور حيَّة معبِّرة، فيقول:
أنا من أمَّـةٍ أفاقت على العزِّ وأغفت مغموسةً في الهوانِ
عرشها الرثُّ من جراد المغيرين وأعلامها من الأكفـانِ
وهو يعبِّر في هذين البيتين عن بؤس بلاده في أثناء الاحتلال الفرنسي، ويصوِّر هذا
البؤس في ثورة تستفز النفوس، وتدفعها إلى العمل على الخلاص من نير هذا الأجنبي. وقد
تتحقق لوطنه ما أمَّله وحلم به.
وفي تخيّله لموقعة اليرموك الشهيرة التي قضت على قوة الروم، يشيد بخالد بن الوليد،
فيقول في قصيدة طويلة:
لا تنامي يا روايـات الزمـان فهو
لولاك موجةٌ من دخان
تتوالى عصوره وبهــا منـك ظلال
طريَّــة الألـوان...
أعلمتـم مَن الفـتى المتـثنِّي
بوشـاح البطولة الأرجواني
إنَّـه ابن الوليد زغردة النصر
وأنشودة الجهـاد البـاني...
فأتـاهم بحفـنة من رجـال عندها المجد
والرَّدى سيَّانِ
ورماهم بهـا ومـا هي إلاّ جولةٌ
فالتراب أحمر قـانِ
وضلوع اليرموك تجري نعوشاً حاملات
هوامدَ الأبـدانِ
ولعلَّ هذه الأمواج التصويرية لم تتجمَّع في شعره كما تجمَّعت في قصيدته التي
أُلقيت في المهرجان الألفي لأبي الطيب المتنبي في الجامعة السورية، وفيها يستعرض
صور الوجود في الصباح والمساء، فصورة الفجر والكون يرتدي بردة الجمال، تقابلها صورة
الهاجرة وهي تصبُّ السأم والصمت في فم الغبراء، ثم يكون المساء فيصوره بتلك الصورة
الناطقة:
مأتمُ الشمسِ ضجَّ في كبد الأفقِ
وأهـوى بطعنـة نجـلاءِ
عصَّبـت أرؤس الروابي الحزانى بعصابٍ
من جامدات الدماءِ
فأطلَّت من خدرها غادة الليل وتاهت
في ميسـة الخيـلاءِ
وأكبَّت تحلُّ ذاك العصــاب
الأرجوانيّ باليد السمراء!!
وذؤابـاتُ شعرهـا تترامى في فسيـح
الآفـاق والأجواءِ
وعيون السماء ترنـو إليـها من شقوق
المـلاءة السـوداءِ
فإذا الكـون لجَّـة من جلال
فجَّرتهـا أنامـل الظلمـاءِ
وكانت علاقة الشاعر بلبنان وطيدة، يسافر إليه في كلِّ مرة تسنح له الفرص، ليقيم بين
أهله وزواره بعض الوقت، فقال في وصفه وإعجابه به:
أنتَ ما أنتَ ! فتون سرمدي نجتدي من
وحيه ما نجتدي
وننـاجيـك وفي ألحـانـنا ينتهي شوق،
وشوق يبتدي
ولنـا في كلِّ نـادٍ سُمَّـرٌ
عُكَّـفٌ حول أمـانٍ شرَّد
رددتْ ما ذاع منـا فانثنت في روابيـك
نشاوى سؤددِ
فأتَلقْ يا معبد النجوى بنــا
إنَّمـا نحن شموع المعبــدِ
كم كحلنـا مقلة المجـد بما صغْتَ في
فجر السنا من مرود
يوم طوَّقت الـبرايـا بيـد وتلقَّيـت
جنـاها بيـــد
قدمٌ تجرح أحشــاء الثرى وفـمٌ يلثـم
خـدَّ الفرقد
وعلى جبينك فتيـان مشى خلفهم ركب
الزمان الأمرد
غمسوا المجذاف في اليم ففي كلّ أفق
مئزر من زبـــدِ
حملوا الحرف الذي انشقت على لحنـه
البكر شفـاه الأبـد
فتلفَّتَ فلـم تلمـح سوى أمَّـةٍ
تهدي! ودنيـا تهتـدي
لم يكن الشاعر عمر أبو ريشة وطنياً قومياً فقط، دون أن يكون له مساهمات في مواضيع
أخرى كالغزل مثلاً، لكنه لم يكن متيَّماً، ولا شاعراً إباحياً، وإنَّما هو شاعر
الجمال دون تبذُّل، ولا يغرق في الوصف والقصص، ولا يتمادى في التحليل والتعليل،
وكأن الرغبات تتحقق عنده في غير مشقَّة، وكأنَّ الحب عنده غير مأسويّ، فلا ذهول،
ولا تلوُّع، ولا تفجُّر عاطفي عنيف، ولكنها سوانح طيِّبة للقاء حافل بالطيب
والجمال، أو لنظرةٍ ملؤها الشغف والسؤال، أو لعناقٍ يعقبه صاعق الزوال:
مَسَاءَ الخيرِ .. هذي قُبلَـةٌ عُجْلَـى .. فمَـا أهنَـا !
وهذي ضَمَّـةٌ أُخرى فمـا أشفـى ومـا أحنـى !
أأمضـي ؟. مَن يُطيـق البعـدَ عن فردوسِهِ الأسنى
وفيـمَ نُقيـمُ للعـذَّال ، يـا حوريـتي وَزْنَـــا
لِيَـأتِ الفجرُ .. وَلْيَنْــقُلْ حِكـايةَ حُبِّـنا مِنَّـا!..