الجهاز التدريسي وأبعاده الاقتصادية على الوسط العربي
والمحلي
الفرص والمخاطر وآليات التطور المستقبلي (الجزء الثاني والاخير)
أسامة العجمي - 05\10\2008
ناقشت في
المقال السابق الأسباب الخارجية التي أدت إلى إنخفاض نجاعة الجهاز
التدريسي في الوسط العربي والمحلي.
مراجعة أبحاث عدة نشرت في المجال علي يد باحثين مثل د. خالد أبو عصبة (مركز فان
لير، القدس) ، سورل كاهن ويعقوب يلنيك، دائرة الإحصاء المركزية، مركز إدفا، جامعة
القدس ومستندات حكومية أخرى أشارت إلى أن تخلف الآليات المستخدمة حاليا وعدم
مجاراتها حتى للأنظمة القياسية ( (standardفي البلاد نابع من تفرقة مركزية وعدم
مساواة في توزيع الميزانيات للأجهزة التدريسية العامة بين الأوساط. على الرغم من
هذا، فإن نسبة لا يستهان بها من المشكلة ناجمة عن التركيبة الخاصة للوسط العربي
ذاته، الإدارة وطريقة التفكير وسأحاول ذكر أهمها من دون تهميش أبعادها على المدى
الطويل.
1- ديموغرافيا الوسط العربي والمحلي (التركيبة السكانية):
معظم الأبحاث الحديثة في مجالي التربية والاقتصاد تشير إلى وجود علاقة مباشرة بين
مستوى التحصيل الدراسي للقيمين على كل وحدة سكنية اقتصادية (أم وأب في العائلة)
وبين خصوبة المرأة في العائلة.
حسب بنك أجراه بنك اسرائيل المركزي على معطيات عام 1999، فإن زيادة مطردة في عدد
الأولاد تحصل لدى العائلات ذوي التحصيل الدراسي المنخفض. المشكلة هي في العائلات
الكبيرة والتي ينخفض فيها معدل الدخل (Income) عن "معدل خط الفقر" ، فإن النسبة
العظمى من الدخل توجه إلى الاستهلاك المستمر (continuous consumption ) وفقط نسبة
ضئيلة من الدخل توجه للاستثمار(Investment)، وهنا أقصد الاستثمار في تعليم الأولاد.
بدون شمل الدعم ( (Subsidyالحكومي (القطاع العام) والذي يتمثل بتوفير المدارس
العامة والمشاريع الاجتماعية المدارة من قبل مؤسسات التعليم العالي ( مشروع "بيرح"
مثلا) فإن قدرة هذه العائلات على تمويل خدمات تدريسية إضافية كدروس خصوصية، دورات
إثراء وبرامج تفعيلية محدودة جدا، حيث تؤدي المنافسة على هذه الخدمات في القطاع
الخاص (علي يد معلمين خاصين أو مراكز خاصة) إلى ارتفاع الأسعار المعروضة والتي قد
تصل بسهولة إلى 25% من الأجرة الشهرية بالمعدل في البلاد (2000 ش.ج.).
معظم العائلات الموجودة ضمن الشرائح الاقتصادية الأربعة السفلى ( حسب مقياس من
1-10) تتميز بنسبة إنفاق تتراوح ما بين 0.9-0.99 من مجمل الدخل الصافي، ما يؤثر
بشكل جذري على القدرة في تجنيد مصادر لتمويل الخدمات المضافة ويبقي أبناؤهم تحت
رحمة الأنظمة الدراسية العامة.
معظم الأولاد الذين يتربون في عائلات التي تتميز بحصص (Shares) قليلة من الاستثمار
في برامج التدريس والإثراء ( كنتيجة لقسمة الدخل على عدد مرتفع من الإفراد) وتلقي
التعليم الأساسي في ظل جهاز تدريسي غير فعال سيكبرون ضمن إطار تعليمي هش، وقد يؤدي
ذلك إلى ترك الدراسة في مرحلة مبكرة.
حسب دائرة الإحصاء المركزية فإن السنة التعليمية الواحدة تساهم في رفع الأجر ب
8.33% بالمعدل.
للأسف، فإن النماذج الاقتصادية وميكانيكا السوق الحر لا تبشر خيرا لمن يترك التعليم
في مراحل مبكرة، إذ يؤدي ذلك لتباطؤ وحتى تجمد للقيمة الإنتاجية للفرد (Value of
Product) وينجم عنه توقف للارتفاع في مستوى الأجور أيضا في مراحل متقدمة (عمال
المصانع، البناء والزراعة..) السبب هو أن اقتصاد السوق يكافئ العامل حسب قيمة العمل
وليس حسب الجهد المبذول وهذا ما يفسر الفروق الضخمة في الدخل بين مهندس الجسور
والعامل الذي يبني الجسر.
في الأحياء الفقيرة في المدن وبعض البلدات تبرز ظاهرة "دوامة الفقر" بشكل واضح، إذ
أن أبائهم تربوا في ظروف مماثلة للتي ذكرت أعلاه وهم الآن يشكلون الجيل الرابع أو
الخامس..
2- اشتراك النساء في سوق العمل:
على الرغم من حصول قفزات نوعية في هذا المجال إلا أن مشاركة النساء بالعمل في الوسط
المحلي تقتصر عادة على وظائف جزئية وبسيطة، ما يؤدي إلى مستوى دخل منخفض للنساء في
الوسط العربي.
لا شك بأن التفرقة في توزيع الأجور بين الجنسين (بالرغم من تشابه القيمة الإنتاجية
في معظم الأحيان) تؤدي إلى إحباط متواصل لدى النساء العاملات، بالإضافة إلى قلة
النساء الحاصلات على شهادات في المواضيع الإدارية والمركبة ( محاماة، طب، إدارة
أعمال وهندسة حواسيب..) مما يفسر نسبة الإقبال المنخفضة على سوق العمل لدى هذه
الفئة في الوسط وبالتالي انخفاض متوسط الدخل في العائلة والاستثمار في تعليم
الأولاد.
3- تركيز عالي:
تبرز في الوسط العربي بشكل خاص "ظاهرة القطيع"، إذ أن إنتقاء موضوع التعليم
للدراسات العليا يتأثر بعوامل مثل "الموضة" الرائجة في التعليم أو بالتماشي مع رغبة
الوالدين والعائلة أو إنتقاء المؤسسة التعليمية التي بها الأصحاب.
قد يبرر الإقبال الشديد على بعض المواضيع كالطب، المحاماة، هندسة مدنية وهندسة
الحاسوب شروط القبول المنخفضة نسبيا، القرب الجغرافي لمكان التعليم وكون الموضوع
معروف وغير جديد.
ومن الجدير بالذكر أني أدعم التعليم بكل أنواعه ولكن تكمن المشكلة في عدم قدرة
السوق المحلي الصغير على استيعاب العرض (Supply) المتدفق لهذه الفئات. نظرا إلى
قدرة سوق العمل المحلي المحدودة في ملائمة نفسه للعرض المتنامي في كل سنة فإننا
نلاحظ سنة بعد سنة تراكما للعرض والذي يهدد البنية الثابتة للسوق المحلي ولكي أفسر
نفسي، سأتطرق إلى الميكانيكا الاقتصادية لسوق العمل المحلي والقومي:
تفسير |
المتغير |
ثمن المنتوج/ الخدمات |
P(x) Price of product- |
الطلب على المنتوج/ الخدمات |
Demand on product-D(x) |
العرض من المنتوج/ الخدمات |
Supply of product-S(x) |
الدخل المحلي/ القومي |
Income of consumers |
متغير مجهول (يتعلق بالوحدة الانتاجية ذاتها) |
µ - Unknown parameter |
لتفسير العلاقة بين التركيز العالي لدراسة موضوع معين وامتهانه وبين أبعاده
الاقتصادية على سوق العمل في المدى الطويل سأتخذ مثالا محليا، أطباء الأسنان :
لذا فإن سوق طب الاسنان سيعمل وفقا للمعادلة الاقتصادية التالية:
النموذج الذي أرفقته يشير إلى تأثر الدخل الكلي (الأجرة) لأطباء الأسنان بعدة
متغيرات مثلا، ارتفاع في عدد دارسي الموضوع وممتهني المهنة ضمن منطقة محدودة سيؤدي
إلى انخفاض الدخل (التنافس الشديد في سوق معين يؤدي إلى هبوط مستمر في سعر المنتج/
الخدمة) من جهة أخرى، زيادة الطلب على خدمات الأطباء من قبل المستهلكين تؤدي إلى
ارتفاع في الدخل (حسب نموذج العرض والطلب الذي ذكر سابقا)، بينما تؤدي زيادة الدخل
المحلي أو القومي لجمهور المستهلكين إلى زيادة الإنفاق على الاستهلاك .
بالنسبة للمتغير الأخير µ فهو يمثل عاملا متغيرا لكل وحدة إنتاجية (طبيب أسنانN
..1،2،3) وتأثيره غير معروف، على سبيل المثال، خبرة الطبيب، سمعة، نوع وجودة
الخدمات المقدمة وقدرته الذاتية على فرض الأسعار (تتحدد حسب مرونة الطلب بالنسبة
للسعر).
كخلاصة لظاهرة التركيز العالي لمهن معينة في المنطقة، أذكر بان عدم الانفتاح على
مواضيع، مهن ومجالات جديدة في سوق العمل ستؤدي في نهاية الأمر إلى إغراق السوق
بالأكاديميين وارتفاع شديد في البطالة من دون قدرة السوق على شفاء نفسه في المدى
القصير والبعيد وستؤدي المنافسة الشديدة إلى هبوط متواصل في الدخل الكلي للسوق
والأفراد العاملين في القطاعات المتأثرة بالمنافسة الشديدة. عوارض سلبية خطيرة أخرى
قد تنجم مثل تردي جودة الخدمات المقدمة ما يعكس الناحية السلبية للمنافسة الشديدة .
الحل المقترح هو إيجاد بدائل لمهن ووظائف، تبادل المعلومات والمعرفة مع الأسواق
الأخرى في البلاد لزيادة فعالية السوق المحلي، محاولة تصدير العرض المتزايد إلى
الأسواق الأخرى (بعد جغرافي ويتنافى مع العقلية المحلية بوجوب العمل في المنطقة)
وزيادة الاستثمار في السوق المحلي.
4- عدم وجود مراكز دعم وتبادل للمعلومات في الوسط :
رغم وجود محاولات خجولة للقيام بمبادرات للنهوض بالمستوى الثقافي والتدريسي في
المنطقة والوسط بشكل عام، إلا أن الفعالية الإنتاجية في النهاية عادة ما تكون
محدودة وتبقى بعيدة عن المطلوب لإغلاق الثغرات العميقة مع الوسط اليهودي. السبب هو
نقص في التمويل والتخطيط على يد القطاع الخاص وانعدام المبادرة الفعالة لأسباب
كثيرة، منها صعوبة إيجاد التركيبة الملائمة لمراكز كهذه والمصداقية الاقتصادية
لتفعيلها وأيضا نقص الخبرات الإدارية.
مراكز كهذه والتي تتوفر عادة ضمن خدمات القطاع العام في الوسط اليهودي، تساهم في
رفع القدرات التعليمية للتلاميذ وجعلهم معرضين أكثر لتلقي معلومات ضرورية للانفتاح
على مواضيع مهمة مثل العلوم الدقيقه (رياضيات، فيزياء وكيمياء) وزيادة المعرفة
باللغات الأساسية، حيث تشكل مشكلة اللغة عائقا معنويا وجوهريا في وجه المقبلين
الجدد على التعليم في المؤسسات بالبلاد وتؤثر على فرص القبول في أسواق العمل لاحقا
بما لا يترك الشك بوجوب تشجيع الطلبة على تكثيف الجهد المبذول للتفوق في هاتين
الفئتين (لغات وعلوم).
تقديم خدمات أخرى مثل دورات تحضيرية لامتحانات القبول للجامعات والكليات ودورات
مهنية عالية المستوى تساعد في رفع احتمال القبول للمواضيع الصعبة بشكل كبير وأيضا
في إدخال تكنولوجيا ومعرفة جديدة للجمهور بأكمله.
كون جميع الخدمات تقدم في مكان واحد فهي تميزه بالقدرة على اكتساب الخبرات، التوسع
وزيادة جودة الخدمات بشكل مستمر وحسب المبدأ الاقتصادي "ميزة للحجم" فإن تركيز
الخدمات في مكان واحد هو أفضل وأنجع من توزيعها في عدة أماكن (معلمين خاصين) مثال
على ذلك، شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون بكاليفورنيا واستديوهات انتاج
الافلام في هوليوود.
5- انخفاض مستوى الطاقم التدريسي (انهيار في الرغبة بالمبادرة) :
ويعد من أهم مسببات الانهيار في الأجهزة التدريسية عامة في البلاد، فمع السنين، أدى
التخفيض المستمر لشروط القبول للكليات والجامعات، في موضوعي التربية والتعليم
تماشيا مع الرغبة التنافسية لهذه المؤسسات في جرف أكبر عدد ممكن من المنتسبين
إليها، مرفقا بكميات كبيرة من الخريجين في المجال بكل سنة، إلى حصول انهيار حقيقي
في صيت الأجهزة التدريسية وقدرتها الذاتية على أداء وظيفتها الأساسية، المعطيات
الدورية تؤكد تفاقم المشكلة سنة بعد سنة رغم جهود وزارة التربية لخلق إصلاح شامل في
النظام عن طريق زيادة الحصص التعليمية، رفع أجور المعلمين وفرض إجراء دورات للطاقم
التدريسي للإطلاع على المتغيرات الجديدة في مجال التربية والتعليم.
إذا فلا بد من رفع شروط القبول لموضوع التربية والتعليم من جديد، وإضافة رقابة
صارمة على جودة الخريجين والعاملين في المهنة، إعطاء مكافآت لأعضاء الطواقم ذوي
الانجازات العالية وتدارك حلقات الوصل الضعيفة في الجهاز وحتى إن كان عن طريق
استبدال الطواقم القديمة والتي تفتقد للروح المبادرة والتجديد، بأخرى مهنية ومحترفة
وبالتالي استغلال الميزانيات المحددة بشكل أفضل وبدقه.
خلاصة
بعد ذكر معظم المسببات الخارجية والداخلية لتردي جودة الجهاز التدريسي في الوسط
الغير اليهودي بشكل عام، أصبح من الواضح بأن قسما من المشكلة ينبع نتيجة لأخطاء
إدارية وضمنية في عمل الأنظمة المحلية والتي من الصعب تغييرها في المدى القصير.
أظهرت أن الاعتماد على القطاع العام فقط في معالجة التآكل المستمر في البنية
التحتية للنظام سيؤدي على الأغلب إلى تفاقم الأزمة في المدى البعيد وتعاظم الفروق
بين الوسط المحلي والأوساط المنافسة.
من الضروري محاكاة النماذج التربوية التي أثبتت فعاليتها في الأوساط الأخرى كبناء
مراكز تدريسية متقدمة والحث على إقامة تبادل للمعلومات والخبرات وتشجيع المنافسة
بين الأوساط في البلاد.
فقط عن طريق الاستثمار الحر في مجال التعليم الأساسي والفوق أساسي، الانفتاح على
الأسواق الأخرى واستيراد الخبرات والمعرفة، ستمكن أبناء الوسط من استغلال الفرص
الكامنة فيهم واستدراج قطار الحضارة الحديث ليبني عهدا جديدا ومجتمعا متينا..فنجني
جميعا محصلة الاستثمار العالي، بدون أن ننسى المعادلة الأهم :
الربح من الاستثمار يبقى أكبر من ثمنه
Profits And Incomes ≥ price of Investment
وحتى يأتي هذا اليوم أنصحكم بأن تمسكوا ورقة الدولار وتقرأوا ما كُتب بخط صغير:
In God We Trust
عن "جهاز التربية العربية في إسرائيل - أباب الأزمة (מערכת החינוך הערבית בישראל –
סיבות לקיומו של המשבר)"
قدم لكلية الاقتصاد وكلية التربية
جامعة حيفا
2008 يوليو
إقرأ أيضاً:
الجهاز التدريسي وأبعاده الاقتصادية على الوسط العربي
والمحلي
الفرص والمخاطر وآليات التطور المستقبلي (الجزء الأول)