الاقتصاد : علم، مهنة، أيديولوجيا؟ - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


الاقتصاد : علم، مهنة، أيديولوجيا؟
أسامة العجمي – 22\10\2008
"إن أعظم سعادة هي التي ترتبط بأكبر عدد من الناس.." (هتشسون).
لعلها عبارة نسيها السياسيون والمتحكمون باقتصاديات العالم في العصر الحديث، فمن أجلها خُلق هذا العلم العظيم ولا يزال يدرس حتى اليوم، لكي يتابع جيل رجال الاقتصاد اليوم، ما بدأه معلموهم قبل مئات السنين.
فقبل ثلاثمائة عام تقريبا، في غربي القارة الاوروبية العجوز وتحديدا انجلترا وفرنسا، بدأت تنمو مجموعات من التيارات الثقافية والسياسية المطالبة بالتغيير والحريات المدنية، حاملة معها بشرى بزوغ فجر عصر جديد من القوانين والفكر الثوري. لم يكن من الممكن تصديق الروائع التي صاحبت بدايات هذا العصر بالنسبة لأولئك الذين عايشوه. الشعوب كتبت في كتبها: "وحدها الحاجة هي أم الاختراع" ، وما جرى هو بداية زمن الاختراعات والتجديد، بداية عصر سمي لاحقا بالثورة الصناعية.
لقد أدت الثورة الصناعية وتأثيراتها الاقتصادية الى تعاظم القوى الاستعمارية في العالم، فتحولت شعوبها من استهلاك منتجات بسيطة كالاغذية والنسيج، إلى إنتاج صناعات مركبة ومتقدمة كالاتصالات، تكنولوجيا المعلومات،الطاقة، مواصلات وغيرها في يومنا الحاضر.
ما يحكم سياسات العالم الغربي ومعظم دول النصف الشمالي للأرض من قوانين ونماذج اقتصادية، مبني ومدعم على المبادئ والانظمة التي نادى بها أب الاقتصاد الكلاسيكي ((أدم سميث)). أجزاء عديدة من كتابه المشهور ((ثراء الأمم)) يستخدم حتى اليوم في تدريس طلبة كليات الاقتصاد.أما هدف علم الاقتصاد الكلاسيكي فهو مساعدتنا في فهم :
- كيفية قيام المجتمعات في توزيع المصادر والثروة(الناتج القومي).
- كيف يتم التوزيع عن طريق السوق الحر.
- كيف يتم التوزيع عن طريق القطاع العام(الدولة).
- كيف تقرر الحدود بين توزيع الثورة والمصادر عن طريق السوق الحر والقطاع العام.
نظرا إلى أن رغبة الافراد في البناء، الاستثمار والاستهلاك هي لا نهائية، مصحوبة برأسمال* ومصادر محدودة، كان لا بد من إيجاد نماذج وطرق كمية لإيصال الأفراد والمجتمع ككل إلى أكبر ربح ممكن(رفاهية)، وذلك عن طريق استغلال الثروة المحدودة بالفعالية الاقصى. وهكذا، أبصر النور علم جديد، مبني على نماذج ومعادلات رياضية واقتصادية، سمي بالاقتصاد الكلاسيكي. مع الوقت مرت النظريات والقوانين بتعديلات دورية وكثيرة لتتمكن من ملائمة التغييرات الدائمة في تقدم البشر ومجتمعاتهم. وعام 1929 دك الكساد الكبير حصون الاقتصاد الامريكي والاوروبي ليمتد لاحقا الى معظم الدول. إذ تسبب الكساد في وضع النظريات الاقتصادية الكلاسيكية تحت امتحان صعب وأدى ذلك الى تغييرات جذرية في ركائز المنظومة، آخذة اسما جديدا – "الاقتصاد النيو كلاسيكي"، حيث استمر النظام الجديد في التعاظم والامتداد الى دول اخرى حتى يومنا هذا.
حتى الآن تتواجد لدى الباحثين والخبراء الاقتصاديين خبرة ومعرفة كبيرة بكل ما يتعلق بتصرفات الافراد والمجموعات، وحتى الانظمة في توزيع الثروة (رأسمال)، لكن كل ما يتعلق بـ:
- فترات الازدهار والركود الاقتصادي
- الثراء والفقر لدى الافراد
- ثراء وفقر الامم
فلا يزال هناك نقص عميق في فهم عمل الانظمة الاقتصادية ضمن ما ذكر سابقا.
يمكن التطرق الى علم الاقتصاد كأنه تحدي للذكاء والفكر الانساني، لما يحمل بطياته من مسائل معقدة والتي يتعذر في معظم الاحيان إيجاد حلول شاملة لها.
من مميزات هذا العلم ارتكازه، وبشكل جوهري، على سلسلة من النظريات والفرضيات التي تسبق حل المشكلة، حيث تقوم بتبسيط سلوكيات الافراد واعتبارهم دائما أشخاصا منطقيين (يسعون دائما الى زيادة ارباحهم) وفي حال عدم تحقق هذه النظريات، كما هي الحال غالبا في العالم الحقيقي، فإن التوصل الى حل يرضي الجميع يصبح معقدا وحتى مستحيلا.
يتراءى للبعض ان الاقتصاد كعلم وجد ليدعم اقتصاد السوق الحر، أي تشجيع التنافس المطلق بدون تدخل في الاسواق، عن طريقة تشجيع المبادرات الفردية وتقليص دور الحكومات في لعب دور مركزي في الاسواق.
إذا، هل الاقتصاد كعلم يدعم الرأسمالية؟ سيجيب العديد بنعم. ولكن من الواجب أن اخبركم بان الرأسمالية ليست نموذجا أو مسلكا اقتصاديا، بل مرحلة من مراحل التقدم الاقتصادي. ففي هذه المرحلة تتعاظم قيمة الآلات ورأس المال في الانتاج. إذن، لا يمكن أن نقول بأن الرأسمالية هي نفسها اقتصاد السوق المتبع اليوم، بل يمكن القول بان العلاقة بين الاثنين تتمثل في كون رأس المال قابل للاتجار به في السوق الحر.
هل يجب فصل العلم عن الايديولوجية؟
من المفروض أن علم الاقتصاد كغيره من العلوم الاجتماعية يبحث في أسئلة عن مواضيع عديدة ذات علاقة باشياء غير حسية مثل المشاعر الانسانية. الخوف، القلق، الطمع، الرغبة بالسعادة وبالحب وتأثيراتها مجتمعة على عمل الاسواق وعجلات الاقتصاد. وفي حالة وجود آراء مسبقة ومترسخة لدى عامة الشعب عن المواضيع التي تجري عليها الابحاث الاقتصادية، فكيف يمكن أن نفرق بين البحث والرأي؟ الواقع يقول بانه علينا ان نمنع من آراءنا ان تؤثر على البحوثات والاستكشافات والعكس صحيح.
علم الاقتصاد يدرس تصرفات الافراد وطريقة اتخاذهم للقرارات. القرارات الاقتصادية والاجتماعية يجب ان تكون بايدي ممثلي الجمهور أي رجال السياسة. مهمة الاقتصاديين اعطاء التوقعات والنتائج الناجمة عن اتخاذ كل قرار او سياسة، ولكن لا يمكنهم ان يحلوا مكان الجمهور في اتخاذ القرارات النهائية، الا في بعض الحالات التي ساذكرها في مقالات لاحقة.
إذن من هو الاقتصادي؟
بشكل مفاجئ،لا يوجد تعريف مطلق ومتفق عليه لتعريف هذه المهنة. أهو خبير في توزيع الناتج القومي والثروات؟ لا يدرس في العالم تقريبا موضوع كهذا.
يمكن القول بان الاقتصادي هو شخص يستعمل معرفته العميقة بميكانيكا السوق لكي يكون مستشارا لمتخذي القرارات.
الاستاذ "يوسف زعيرا" من جامعة القدس وباحث في مركز "فان لير" القدس يقول: "إن هناك مخاوف من أن هذا العلم والذي يبحث في مشكلة ((لماذا يوجد فقراء واغنياء في هذا العالم؟)) سيؤدي الى خلق نماذج ونظريات مبنية وراضخة لواقع وجود الفقر والثراء بجانب بعضهما البعض في العالم.
تكثر الابحاث المتعلقة بالقوى والمسببات للتفرقة وعدم المساواة في رفاهية البشر في الامم المختلفة بشكل عام، والامة ذاتها بشكل خاص، لكن هل يتوجب علينا أن نتخلى عن فكرة إيجاد حل للقضاء عليها بشكل نهائي؟
في كل يوم يمر على الانسانية، تتأثر حياة ملايين البشر بقرارات يومية تتخذ على يد قلة من الأشخاص، هؤلاء المستشارين الاقتصاديين وُجدوا لكي يدرسوا فعالية الانظمة الاقتصادية العالمية ويزيدوا من فعاليتها بشكل دائم.
فلو تحالفت الحكومات مع شعوبها بدلا من إزدرائها وتجاهلها، واتفق صانعوا القرار والمنصاعين له على الحل الافضل للجميع كمجتمع وأمة، لرأينا سياسات جديدة، عالما آخر، وبالتأكيد، سعادة أعظم..
*رأس المال : الالات، العمال، الاموال وغيرها من المصادر.