رقص السنابل - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


رقص السنابل
إياد مداح - 29\10\2008

كان جدي يلفظ، ربما، آخر أنفاسه ويعدُّ حبات القمح في البيدر.. كان يبتسم، بما استطاع أن يسرق من أنفاس.. كان القبر أقرب إليه من القبر وكنّا جميعا نجلس في صمت مطبق.
ربما كنا نحصي عليه أنفاسه أو نحاول التمسك بما تبقّى لنا من أمل في صمت. وحده جدي كان سعيداً، على الأقل أسعد منا نحن الذين غادرتنا السنابل منذ زمن بعيد؛ منذ صار بيت جدي بلا مناجل.
في تلك اللحظات، غادرتُ مع جدي إلى البيدر.. لم أكن هناك، لكنني رأيت كل شيء. وتذكرت شكسبير بلهفةٍ، أجل، فالبيدر كان مسرحا كبيرا، بحجم راحة الشمس وحريتنا وما فقدناه منها عبر الأثير ودونما توقفٍ أو مقاومةٍ أو حتى تساؤلٍ، لا سؤال.. لم تكن هنالك مقاومة لأحد لأنه لم يكن هنالك جلاد حاضر، كحضور جدي، إنما كان الجلاد يعشعش في كل زاوية من الزوايا.. كان حاضرا بسوطه غير المرئي...
رأيت جدي خائفا، إنما كان يحصد وكلما خاف أكثر حصد أكثر وأكثر وأكثر... كان الخوف يرقص في الهواء؛ حقيقةً لم أره، فأنا لم أكن هناك.. أين كنت؟ آسف!.. لا أعرف! حقيقةً لا أعرف، لكنني رأيت مسرحية الحصاد؛ كانت السنابل تتمايل وترقص للمنجل.. تتمايل وترقص للمنجل فيقتلها، تتمايل فيقتلها. خلف المناجل كانت لاقطات القوت، الطبول، الحصادات البشرية، الأيدي، الآغاوات وخلف تلك الجوقة رأيت عشرين طفلاً يسابقون الريح لما تبقّى من القمح الهارب من تحت النعال والجيوش الزاحفة على السنابل.. ونحن في الغرفة كنّا سكارى، فقد كان الشعير في بلادنا وفيراً.
خدعني جدي، كان يهرب بفرح، تَذكَّرَ القمح لكنه لم يتذكَّرِ البيدر، الآن عرفت أين أنا؛ أنا ونحن الآن في البيدر وجدي صار حبة قمحٍ ستكبرُ وتكبر وتصبحُ سنبلةً تتمايل للمنجل فيقطعها المنجل. لكن جدي قال لي مرةً هامساً، حين كنت طفلاً لا يفشي السرَّ: "يا حفيدي الغالي فلتشهد أنني لن أقبل بعد اليوم أن أكون فلاحا بالأمر، لن أستيقظ بأمرٍ، لن أفرح بأمرٍ، لن أتعب بأمرٍ".
جدي الآن صار سنبلةً، غريبٌ أمرك يا جدي، أي سنبلةٍ أنت وفي أي مكان نزلت، في أي بيدر، هل تراك تسمع قرع الطبول؟ جدي... جدي... جدي... تصبح على خيرٍ، بل صباح الخير، بل إلى اللقاء في بيدرٍ آخرَ...
عُدتُ في ذلك الحين وبقي جدي، أجهش الجميع بالبكاء بينما بقيت أنا هادئاً، صامتاً، أردت أن أودع جدي بابتسامةٍ لكنْ، كان الرقيب يرصدني، حيث لا ابتسام مع الموت، يجب أن تحزن بالجزمة، فالموت ليس كتحول الجليد إلى ماء.. أنا أؤمن أنه كذلك.