الرجل
الذي فقد ظله
داوود الجولاني – (اسم مستعار. الاسم الحقيقي محفوظ لدى موقع جولاني)
31\10\2008
لم يعبث بجسده أي مرض يفسر سبب هذا الشحوب في وجهه والوهن الذي يسير مع ركبتيه،
وكانت فكرة أن هذا اليوم هو يومه الأخير أبعد من أن تمر بمخيلته. انتعل حذاءه وهو
يجيب زوجته لسؤالها: "ألا تتناول الغداء مع الأولاد اليوم؟".
"هل نسيت أن ابن فلان سيتزوج ؟ فمقابل الخمسين شاقل التي سأضعها في الصندوق الأبيض
هناك غداء دسم".
ثم خرج من منزله متجاهلا قولها: "ألا ينفع أن تأكل مع الأولاد و«تنقط» دون أن تأكل
على مائدة والد العريس؟".
أوسع والد العريس تقبيلا، وحتى العريس الذي لا يعرفه، والذي بدا متأففا من كثرة «التمجيق»
والقبل التي حصل عليها دون رغبة منه، وأخذ يراقب المائدة الطويلة الممتدة فوق
الشارع، والتي منعت حركة المارة والسيارات. وحين لاحت له الفرصة ورأى كرسيا فارغا،
قفز مثل جندب. لكن رجلا أكبر منه سنا سبقه.. فتراجع إلى الوراء وهو يبش ببسمته مثل
أي رجل متحضر.. وفي داخله تشتعل الشتائم.
أخيرا أكل، ثم أكل، حتى سال الدهن من بين شفتيه، ولم يعد قادرا على التهام أي قطعة
من لحم الضأن أو العجل، فقذف في فمه قطعة من الكنافة, ثم تلفت حوله وكأن أحدا لا
يراه.. ابتلع قطعة ثانية وألحقها بقرن موز غليظ، وانصرف دون أن يغسل يديه، رامقا
والد العريس بنظرة، تمنى فيها أن يكون «النقوط» قليلا، وأن يرمى ما تبقى من لحم في
المزبلة.
اقترب حلول المغيب، فقرر المشي قليلا في شوارع القرية. لم يكن يعرف أن تجواله
سيقوده إلى حقيقة كان يشعر فيها، ولكنه لا يقدر فهمها وتحديدها بكلمات واضحة. فإن
شعوره أنه تحول إلى اسطوانة هواء تقودها قدمان، وأنه صار لا يؤمن بأي هدف أو مغزى
لحياته، لم يكن ليشكل لديه انزعاجا خاصا، مقارنة بما اكتشفه لاحقا.
شاهد في تجواله امرأة تشطف بالماء مدخل منزلها، فرأى وهي تنحني، وهو يراقبها من
الخلف، فخذين يلمعان من الجمال والصبا، فتوقف وبادرها الكلام، وهو يركز عينيه في
قميصها المفتوح قليلا ..: "أين فلان؟".
فأجابته: "إنه نائم... أدخل لشرب القهوة وسأنبهه من نومه". ولكنه اعتذر، معللا بأنه
في عجلة من أمره، وانصرف، بينما بقيت في عينيه ملامح فخذي زوجة صديقه.
ثم التقى في تجواله عجوزا مسنا يستند على عكاز خشبي، فتقدم منه وقبل يده، ثم انصرف
عنه وهو يدعو في سره:
"ليت هذا العصا ينكسر، فيقع ويحطم انفه وقدميه حتى يسيل دمه.. جزاء ما اقترف بحقي
عندما شهد ضدي بأني المعتدي على أرض جاري".
استمر في المشي والصمت حتى التقى سيارة شرطة تقف بجانب شاب من القرية. وكان واضحا
من حركات يدي الشاب انه يناقش الشرطي بمودة . فتبادر إلى ذهنه ما سمعه في أخبار
الجزيرة عن وساطة تركية لإحلال السلام بين الجمهورية العربية السورية وبين
المستوطنة الإسرائيلية. فأحس فجأة بحقد شديد على الأتراك جميعا لم يعرف سببه، وحلله
ربما لأن جد جده مات في السفر برلك. ولكن هذا التحليل لم يقنعه كثيرا فقال: "المهم
إني لا أحب تركيا وسأبحث عن السبب لاحقا".
واستمر في المشي، وكان الظلام قد حل، وأنيرت المصابيح الضوئية، فقال وهو يشاهد طفلا
يركض نحوه: "لقد فعلها أخيرا المجلس المحلي وأنار الطرقات".
وقف تحت عمود الكهرباء، وهو مقتنع أن هذا الطفل الراكض من بعيد يتجه نحوه.. انتظر
ولم يصل الطفل، ثم انتظر ولم يصل الطفل.. تلتفت حوله فعرف أنه فقد شيئا... فأحس
بضيق في التنفس وكأن اسطوانة الهواء بدأت تنفذ، وحين مر الطفل من أمامه ولم يتوقف،
خرجت من فمه كلمات مبحوحة وغير مفهومة، رافقها نحيب جلس في عينيه. "قد كنت أشبهه...
والآن فقدت ظلي...".