تنشئة الطفل اجتماعيا
عبير الكحلوني - خريجة كلية علم الاجتماع
22\11\2008
يولد الطفل البشري عاجزا عن التكيف ماديا واجتماعيا مع البئة المحيطة به، لكنه يكون
مزودا باستعدادات هائلة تقوم عليها عملية إعداده للمجتمع الذي يعيش فيه، فيكتسب
أثناء تفاعله مع البيئة أساليب السلوك والخبرات المتعددة.
إن العملية التي تحدث تغيرات في الطفل البشري منذ ولادته، وينتج عنها اكتسابه الصفة
الاجتماعية الإنسانية، تسمى التنشئة الاجتماعية، وتتضمن هذه العملية اكتساب الفرد
المواقف والقيم والسلوك والعادات والمهارات، التي تنتقل إليه من خلال تفاعله مع
البيئة المحيطة به بكل مؤسساتها، كالأسرة والمدرسة والرفاق ووسائل الإعلام. تتم
عملية التنشئة خلال تفاعل الطفل مع الراشدين المحيطين تفاعلا مباشرا، يكتسب من
خلالها هويته الشخصية التي تسمح له بالتعبير عن ذاته وتحقيق رغباته وأهدافه
بالطريقة التي يراها مناسبة.
العوامل المؤثرة في التنشئة الاجتماعية:
يلعب الوسط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الفرد دوراً أساسيا في تكوين شخصيته. فالطفل
يتفاعل خلال مراحل نموه مع الأفراد المحيطين به، ومع الجماعات وفئات المجتمع، ومع
المضامين الثقافية. وأول ما يتفاعل معهم الطفل هم أفراد أسرته، ثم تمضي التنشئة إلى
المدرسة والنوادي وما يتعرض له الفرد من وسائل الاتصال الجمعي، حيث تساهم كل هذه
الأمور في عملية التنشئة.
لنبدأ بالأسرة.
ا)الأسرة: تعد تنشئة الأطفال وظيفة أساسية من الوظائف التي تقوم بها الأسرة - تلك
الجماعة الإنسانية الأولى التي يعيش ضمنها الطفل السنوات الأولى من عمره، ويكون
عندها عاجزا عن تلبية حاجاته العضوية النفسية، لكنه يتميز بسرعة قابليته للتشكل
نظرا لقلة خبرته.
يبدأ الطفل باكتساب العادات السلوكية المتصلة بتحقيق حاجاته العضوية الحيوية كالأكل
والنوم، وتعتمد الأسرة أسلوب الثواب والعقاب، فيستبعد الطفل السلوك الذي يؤدي إلى
عقابه، ويتعلم السلوك الذي يقابل بالاستحسان. كما يتعلم الطفل من أسرته أن يقيم
علاقات مع الآخرين من خلال علاقاته مع أفراد الأسرة، وتنمو قدرته اللغوية، ثم يبدأ
بتكوين فكره عن ذاته من خلال ملاحظة كيفية استجابة الآخرين المحيطين به لسلوكياته،
ويكتسب الطفل أدواره الاجتماعية ويتعلم دوره في الأسره كذكر أو أنثى ثم كإبن أو أخ،
لكن هنالك عوامل أسريه تؤثر في التنشئة هي:
أ) جو الأسرة الثقافي: يقضي الطفل معظم أوقاته خلال السنوات الأولى من حياته مع
أسرته، وتقوم علاقة متينة بينه وبين أمه على أساس أنها تؤمن له حاجاته الأساسية،
لهذا تؤثر درجة ثقافتها تأثيرا فعالا في تنشئة أطفالها. إن مستوى الأم الثقافي
المرتفع يجعلها أقدر على معرفة الطرق التربوية السليمة التي يجب أن تستعملها مع
أطفالها، وكذلك معرفة العلاقات الصحيحة التي يجب أن تسود بينها وبين بقية الأسرة.
ب) حجم الأسرة: تتأثر العلاقات القائمة بين أعضاء الأسرة بعددهم، ومن ثم لا شك أن
معاملة الوالدين لأبنائهما تختلف باختلاف حجم الأسرة وتركيبها، أضف إلى ذلك أن هذه
العلاقات القائمة بين أعضاء الأسرة تؤثر في شخصياتهم وسلوكياتهم، وهذا ما يجعل
خصائص الطفل النفسية الاجتماعية تختلف باختلاف عدد الأخوة وترتيب الطفل الميلادي.
إن زيادة عدد أفراد الأسرة يمكن أن يحول بين تفاعل الأفراد مع بعضهم تفاعلا سليما،
ذلك أن هذه الزيادة قد تتجاوز قدرة الأفراد على إدراك بعضهم إدراكا سليما، ثم أن
العلاقات القائمة بين أعضاء الأسرة كبيرة الحجم أكثر تعقيدا أو تداخلا من تلك
القائمة بين أعضاء الأسرة قليلة العدد، وهذه العلاقات يختلف نوعها باختلاف المستوى
الثقافي لأعضاء الأسرة.
ج) العلاقات بين الأباء: تلعب العلاقات القائمة بين الوالدين دوراً أساسيا في حياة
الطفل النفسية واتزانه العاطفي والانفعالي، ذلك أن العلاقات القائمة على الثقة
والاحترام والمحبة تشعر الطفل أن حاجاته مشبعة ورغباته محققة، فينعكس هذا الشعور في
شخصيته وتتميز انفعالاته بالاتزان وينشأ واثقا مطمئنا. أما إذا سادت النقمة والرعب
في العلاقات القائمة بين الوالدين، فإن أولادهما لا يشعرون بالطمأنينة ويخافون من
الآخرين، ويبتعدون عن إقامة أية علاقة صداقه معهم. إن الطفل الذي يحرم من الأمن
والطمأنينة في طفولته يرفض تقبل الحب ويبخل بمنحه إلى أطفاله في المستقبل، أو قد
يسرف في حنانه ويبالغ في منحه إلى أطفاله، ولا شك أن الموقفين يسيئان إلى الشخص
وإلى من يحيط به.
إن الطفل الذي يعيش في منزل مفكك تسوده خلافات يحرم من العطف والرعاية والإشراف،
وهو الطفل الذي يتعرض لمشكلات سلوكيه كالمخاوف الشاذة, اضطرابات النوم, التبول
القسري, الكذب, السرقة والغش.
د) العلاقات بين الآباء والأبناء: تعد الطرق والأساليب التي يعامل بها الآباء
أبناءهم في المواقف المختلفة من العوامل الأساسية المؤثرة في شخصية الأبناء. إذ
يحول الإفراط في اللين أو القسوة بين الطفل والتكيف بشكل سليم في الحياة
الاجتماعية، لهذا فإن إسراف الأم بتدليل أحد أطفالها يترك آثاره البعيدة في حياته،
حتى بعد اجتيازه مرحلة الطفولة وبلوغه السن الذي يصبح قادرا فيها على الاعتماد على
نفسه. إن هذا النوع من المعاملة يصبح جزءا من بيئة الطفل الاجتماعية، خاصة إذا
استمرت الأم به، وتنعكس في تصرفاته وثقته بنفسه. فكم من كبار لا زالوا أطفالا ولا
تبدو عليهم صفات الرجولة والنضج، ويتوقعون من جميع المحيطين بهم أن يعاملوهم كما
تعامل الأم طفلها. كذلك يترك الإفراط في القسوة آثاره السلبية في شخصية الطفل.
وغالبا ما يكون أسلوب الأب في مجتمعنا هو الذي يتميز بالقسوة والصرامة في معامله
أبنائه. فإن إسراف الأب في عقاب أولاده وعدم إظهار الحب والحنان لهم يفقدهم الثقة
بأنفسهم ومن يحيط بهم، وقد يؤدي أيضا إلى نمو الميول العدوانية لديهم. لا شك أن
الاعتدال في تلبية حاجات الطفل ورغباته يساعده على التكيف الصحيح، فيتعلم مواجهة
العقبات التي قد تعترض سبيله. عموما إن تفضيل الوالدين كليهما أو احدهما لطفل معين
يولد عند الأطفال المحرومين شعور الغيرة والعدوان، فيعبرون عنها بسلوك عدواني. كما
أن محبة الوالدين لأطفالهما ومعاملتهما المتساوية لهم يولدان المحبة بينهم، ويسعون
للمحافظة على عطف والديهم ورضاهما.
2)المدرسة: وهي البيئة الثانية ذات التأثير المباشر في الطفل بعد الأسرة، حيث يواصل
فيها نموه الجسمي والعقلي والاجتماعي والانفعالي. إن دائرة الطفل الاجتماعية تتسع
بالمدرسة الابتدائية، حيث يلتقي الطفل بالمدرسة مع جماعات الرفاق والمعلمين، ويواجه
في بداية دخوله المدرسة نظاما جديدا يختلف عن الذي عهده في أسرته، فيضطر للتنازل عن
الكثير من الامتيازات التي كان ينعم بها في المنزل، ويصبح في المدرسة فردا من
مجموعة من التلاميذ اللذين يخضعون لمعاملة واحدة، فيضطر لتعلم أساليب سلوك جديدة،
والقيام بادوار اجتماعية جديدة، وعلى أساس هذه الأدوار يكـّون الطفل في المدرسة
الأسس الأولية للحقوق والواجبات.
وهكذا تعد المدرسة من المؤسسات الهامة في تنمية شخصية الطفل، كونها تستطيع أن تعدل
الكثير من العادات التي اكتسبها الطفل في أسرته، وتعمل على إكساب التلميذ المهارات
والمعارف وطرق التفكير التي تناسب مراحل عمره، فالحياة في المدرسة حياة حقيقية
كونها تركز على حاضره ومستقبله.
3)الرفاق: تتسع دائرة علاقات الطفل الاجتماعية مع ازدياد نموه، فيخرج من نطاق
الأسرة واللعب مع إخوته إلى جماعات الرفاق والأصدقاء، حيث يكتسب منها معايير سلوكه
وأنماط تفكير جديدة.
إن جماعات الرفاق تتكون عادة من أفراد يشتركون في مرحلة نمو واحدة. فهم يشتركون
بحاجاتهم وأهدافهم. وتنشأ هذه الجماعات من تضافر عوامل جسمية ونفسية واجتماعية لهذا
تربط أعضاءها مع بعضهم علاقات قوية متماسكة، وخاصة في فترة المراهقة، ولهذا فان
تأثيرها في أعضائها أقوى من تأثير الوالدين والمدرسة.
يضاف إلى هذا أن جماعة الرفاق تزود أعضاءها بمهارات جديدة، وتنمي فيهم القدرة على
الحكم على أنفسهم وتكوين فكرتهم الصحيحة عن ذواتهم، وعن مكانتهم الاجتماعية
الحقيقية بين رفاقهم، ومن هنا تأتي أهمية هذه الجماعات. لذلك يترتب على الآباء
والمشرفين على تربية الجيل في المجتمع أن يستغلوا ميل الطفل للانضمام إلى جماعات
الرفاق.
4)وسائل الاتصال الجمعي: تعكس وسائل الاتصال جوانب الثقافة المختلفة، بما تنشره من
معلومات وما تقدمه من حقائق وما تعرضه من أفكار وأراء، فهي تحيط الفرد علما
بموضوعات معينه من السلوك وأنواع معينه من الاتجاهات، وهذا ما يؤدي إلى توسيع دائرة
صلات الفرد الاجتماعية ويؤثر في تنمية شخصيته.
إن احتكاك الفرد اليومي بوسائل الاتصال ينمي محصوله اللغوي، بحيث تزيد البرامج
الإذاعية والتلفزيونية والمقالات من فرص اكتساب الفرد للكلمات والمعاني الجديدة،
وفي هذا المجال يمتاز التلفاز عن غيره من وسائل الاتصال ذلك أنه يقدم الكلمة مصاحبة
للصورة، ويفوق تأثيره بالأطفال خصوصاً لأنهم يبدؤون بمشاهدته من السنة الثانية في
عمرهم.
إن ما تتميز به وسائل الاتصال من قدرة على عرض المادة الحديثة بطريقة مبسطة وشيقة،
يجعلها تتمتع بقدرة فائقة على جذب انتباه الأفراد، وخاصة الأطفال، وعلى جعلهم
يتابعون ما تقدمه وما تعرضه من برامج، ولهذا فإن ما يكتسبه الفرد من وسائل الاتصال
أبقى أثرا من التعلم المقصود وأكثر فاعليه مما يقدم في المدارس.