دروز أو موحدون، أو الاثنان معاً! من أين
جاءت التسمية؟
ابن زاهدي - 04\12\2008
لقد أصبحت صفحات (الأنتر نت) مصدرا رئيسيا للبحث عن المعلومات لأبنائنا وبناتنا.
ومن خلال تصفحي لعدد كبير من هذه المواقع وجدت بأن هناك عدد كبير منها ينشر معلومات
خاطئة أو غير كاملة، وفي بعض المواقع العربية والسلفية نجد معلومات مغرضة وتحريضية
وتكفيرية تمهد للمكائد والفتنة, لذا قررت تقديم بعض ما استطعت إليه سبيلا من
المعلومات الموثقة تاريخياً وعلمياً وديموغرافياً, وسأبدأها بتقصي الأسماء التي
تطلق على الموحدين الدروز.
الدروز
حتى الآن مازال الاعتقاد السائد هو أن اسم الدروز جاء من الداعية الفارسي محمد ابن
إسماعيل الدرزي، والملقب بنشتكين الدرزي (الملعون أصلا عند الدروز), ولكن الدرزي
ليس كنية نشتكين, بل هو لقب يَِِنسُبُ نشتكين إلى شئ ما كان له صلة بشخصيته من مكان
أو مهنة أو ما شابه ذلك. وبعد البحث توصلت إلى أن اسم الدروز جاء من الكلمة
اليونانية القديمة drous، ومعناها طالب العلم أو المعرفة, والكلمة دخلت اللغة
العربية ومازالت تستخدم بمعنى يشبه المعنى اليوناني (دروس, جمع درس), ونشتكين لقب
بالدرزي لأنه كان ينتمي إلى جماعة أو مدرسة لها علاقة بالفلسفة اليونانية. والدروز
هم إحدى الجماعات التي لها علاقة وطيدة بفلسفة اليونان, وهنا يمكن القول بأن الدروز
والدرزي قد استمدوا هذا اللقب بسبب صلتهم بالفلسفة اليونانية. ويبقى السؤال من
استمد اسمه من الآخر؟ فأنا أرجح بأن نشتكين كان قد لقب بالدرزي بسبب انتسابه للدروز
في مطلع الدعوة, والدروز استمدوا لقبهم من الفكر اليوناني الذي هو المحور الأساسي،
الذي ميزهم عن الفئات الدينية الأخرى. ولو افترضنا العكس, أي أن الدروز استمدوا
اسمهم من نشتكين, فهذا يعني بأن نشتكين كان ينتمي إلى جماعة لها علاقة بالفلسفة
اليونانية في بلاد فارس قبل مجيئه إلى مصر، وهذا مستبعد لأن اللغة اليونانية لم تكن
سائدة في بلاد فارس، على عكس بلاد الشام التي بقيت تستخدم اللغة اليونانية حتى
أواخر القرن الثامن الميلادي. وهنا أريد أن ألفت الانتباه إلى أن هناك عقيدة أخرى
استمدت اسمها من نفس الكلمة اليونانية، وهم الدرويدز druids، مما حدا ببعض الباحثين
الأوربيون للاعتقاد بأن الدروز هم من بقايا الدرويدز وهذا غير صحيح.
من أين أتت تسمية الموحدون؟
لقد بحثت في تاريخ الدروز الفاطمي وما سبقه وصولاً لعهد الفراعنة, وتوصلت إلى قناعة
بأن لقب «الموحدون» يعود إلى أصول الدروز قبل ظهور الإسلام، وبالتحديد إلى المسيحية
القديمة. فمعظم العشائر الدرزية المعروفة اليوم يمكن تتبع سلالتها إلى قبائل عربية
وآرامية ومصرية وشمال إفريقية، كانت تعتنق المسيحية قبل وصول الإسلام إليها. وهنا
أقدم ملخصا قصيراً جداًعن مصدر التسمية:
بعد مجمّع نيقيا الكنسي عام ٣٢٥ميلادي، تحت إشراف الإمبراطور الروماني قسطنطين،
أُقرّت نظرية الثالوث المقدس (الأب والابن والروح القدس)، وتم الاعتراف بأربع
أناجيل من أصل سبعة (أو ثمانية)، وأحرقت الأناجيل الأخرى, وتأسست الكنيسة الرومية،
وأُقرّ بأنها الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية.
بعد نقيا انقسمت المسيحية إلى معسكرين: معسكر المعارضين لنقيا الذي ضم جميع
التيارات المعارضة للكنيسة الرومية، وكان على رأسه الكنيسة العريانية ومركزها
الإسكندرية، ومعسكر المؤيدين للكنيسة الرومية (النصارى) الذي ضم جميع التيارات
المؤيدة لنقيا وقراراتها وكان مركزه القسطنطينية. وللتمييز بين التيارين أطلق
المعارضون على أتباع التيار الرومي «الثالوثيون» نسبة لاعتقادهم بثالوثية الخالق,
وأطلقوا على أنفسهم (الموحدون) نسبة لاعتقادهم بوحدانية الخالق.
حارب الرومان التيارات التوحيدية بشراسة ووحشية، واستطاعوا القضاء على نفوذهم
السياسي في شمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط، بعد سقوط دولة الفاندال العريانية
منتصف القرن الخامس الميلادي. أما في أوروبا فاستمروا حتى نهاية القرن السادس
الميلادي، حيث قضت عليهم حملة عسكرية نظمها بابا روما وأجبروا على اعتناق المذهب
الكاثوليكي.
عند ظهور الإسلام أسرعت القبائل التوحيدية للتحالف مع الدين الجديد، لطرد الرومان
والتخلص من ظلمهم، وهذا يفسر لماذا فتحت دمشق ومصر وشمال إفريقيا أبوابها بدون حرب
للجيوش العربية. ولكن الفاتحين الجدد وبعد أن استقر أمرهم نكثوا عهودهم للموحدين
وأجبروهم على اعتناق الإسلام، بحجة أن القرآن يعترف فقط بعقيدة النصارى ولا يعترف
بعقيدتهم, فهم لا يعتبرون من أهل الكتاب. معظم ذلك حدث في العصر الأموي، مما دفع
الموحدين للتعاطف مع الفرق الشيعية المعارضة لحكم الأمويين ومن بعدهم العباسيين.
وعندما ضعفت الدولة العباسية في الشرق، بدأت القبائل المضطهدة بالتمرد، والتفوا حول
الداعية الإسماعيلي عبد الله المهدي، وأسسوا الدولة الفاطمية في شمل إفريقيا. وبعد
خلافات عشائرية بينهم انقسموا إلى قسمين: قسم اعتنق المذهب المالكي السني وأسس دولة
الموحدين السنّية في غرب المغرب وتحالف مع الأمويين في الأندلس, والقسم الآخر استمر
في الولاء للدولة الفاطمية وركز حكمه في مصر والحجاز وشرق البحر المتوسط. وبما أن
الفاطميين كانوا ينتمون للشيعة الفاطمية ويستمدون شرعيتهم من انتمائهم لأهل بيت
الرسول، لم تبرز بينهم تسمية التوحيد إلا في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، حيث أن
أم الحاكم كانت من أصل مسيحي عرياني، والحاكم نفسه كان متأثرا بعقيدة أمه، إلى جانب
ورعه بالإسلام والفلسفة اليونانية، ففسح المجال لبروز الفكر التوحيدي الذي حمله
الدروز بعد غياب الحاكم.
وللوصول إلى هذا الاستنتاج تتبعت بعض القبائل التي ينحدر منها الدروز قبل وصول
الإسلام: .
قبائل المناذرة مثلا، والتي ينحدر منها عدد من العشائر الدرزية لم تكن جميعها من
أتباع التيار التوحيدي. فالقبائل التي كانت تسكن شرق بلاد الشام وبلاد فارس كانت
أكثرها من أتباع المبدأ النسطوري، الذي يؤمن بوحدانية الله وثنائية المسيح, أي أن
الجسد هو جسد بشر والروح فقط هي لاهوتية, وعندما تنفصل الروح عن الجسد كلٌ يعود إلى
مصدره؛ الروح إلى الله والجسد إلى التراب, وهذا المبدأ مازال السائد في عقيدة
الدروز.
أما قبائل الغساسنة التي ينحدر منها بعض من عشائر جبل الدروز (حوران)، فكان
غالبيتهم ينتمون للمذهب المونوفيزي (اليعقوبي)، الذي يؤمن بوحدانية الله، وبأن
المسيح له طبيعة واحدة وهي إلهية فقط, وبعضهم الآخر كان ينتمي للكنيسة الرومية
البيزنطية التي تؤمن بالطبيعة الثلاثية. وهذا التوزع المذهبي كان ينطبق كذلك على
المنطقة الآرامية بين حلب ودمشق وأجزاء من فلسطين والساحل السوري، التي كانت تخضع
للنفوذ البيزنطي.
أما مصر وشمال إفريقية وأجزاء من فلسطين فكانت المسيحية السائدة هي المسيحية
العريانية، التي رفضت قبول فكرة الثالوث المقدس واعتقدت بوحدانية الله، وفصلت بين
الله والمسيح والروح القدس (الكلمة)، واعتبرت المسيح من مخلوقات الله وليس ابنا له.
إلى جانب الكنيسة العريانية كان الرومان يدعمون ويقوون الكنيسة الرومية, وقبل وصول
الإسلام كانت الكنيسة العريانية محضورة, ومسموح فقط للكنيسة الرومية والكنيسة
القبطية بممارسة شعائرهم الدينية.
المناذرة لم يكونوا مضطهدين دينيا من قبل الفرس, ولكنهم انضموا إلى الجيش الإسلامي
منذ البداية لأسباب قومية وسياسية، بعد خلافهم مع ملك الفرس ومعركة ذي قار الشهيرة.
أما الغساسنة فوقفوا إلى جانب الرومان في معركة اليرموك, وفي منتصف المعركة انقلب
قسم منهم على الرومان والتحق بجيوش العرب المسلمين. بعض المؤرخين يعزي هذا الانقلاب
لأسباب قومية, وأنا أرجحه لأسباب دينية, لأن العقيدة اليعقوبية التوحيدية كانت
مضطهدة من قبل الثالوثيين الروم، المدعومين من الدولة البيزنطية.
أما دمشق المسيحية فقد فتحت أبوابها مرحبة بوصول المسلمين, وخرج رئيس أساقفتها
مخاطبا الناس: "لقد جاء أبناء عمومتنا العرب لنصرتنا وتخليصنا من ظلم الروم", وكلمة
الروم كان يقصد بها كنيسة الروم, ولو كان يقصد السلطة السياسية لاستخدم كلمة
الرومان بدل كلمة الروم. هذا يدل كذلك على أن مسيحيي دمشق آنذاك كانوا ينتمون في
غالبيتهم للتيار التوحيدي الرافض لعقيدة الروم الثالوثية. ومعروف عن دمشق منذ القرن
الأول قبل الميلاد بأنها كانت مركزا روحيا للإسينيين، اللذين مهدوا الطريق للدعوة
المسيحية. ولمعرفة المزيد عن الإسينيين يمكن الرجوع إلى مقال نشرته سابقا في موقع
بانياس وموقع جولان للتنمية.
وفي مصر وشمال إفريقيا، وصولا للأندلس، كانت القبائل ترحب بالمسلمين وتلتحق
بجيوشهم، لنفس السبب الذي أفصح به رئيس أساقفة دمشق. وهنا لا أجد دوافع قومية لهذا
الترحيب لأن غالبية تلك القبائل لم تكن عربية.
إذاً, المسيحيون الموحدون، على اختلاف مذاهبهم، رحبوا بدخول الإسلام للتخلص من ظلم
الروم، ولأنهم وجدوا فيه دين عدل ومساواة، لا يختلف مع جوهر عقيدتهم (وهنا أريد أن
أنوه إلى أن الرهبان الذين كانوا يعيشون في جبل حرّاء في فترة نزول القرآن على
سيدنا محمد كانوا من أتباع المذاهب التوحيدية). والخلاف بدأ يبرز في نهاية العهد
الراشدي وبداية العهد الأموي، حيث راح الدعاة المسلمون يستقطبون الناس إلى الإسلام.
ولكي يتم لهم ذلك بسرعة أصدروا الفتاوى التكفيرية، بأن هذه الطوائف ليست من أهل
الكتاب، ولا تجوز عليها الجزية، كالنصارى واليهود، ويجب إدخالهم في دين الإسلام
طوعا أو قسرا. بعضهم اعتنق الإسلام طوعا، وبعضهم لجأ للطوائف النصرانية، التي صنفها
المسلمون من أهل الكتاب وفرض عليها الجزية, والباقي لم يجد ما يمنعه من مزج عقيدته
بالدين الجديد طالما أنهما لا يتناقضان.
بعد استلام معاوية زمام الخلافة, رأى قسم كبير من المسلمين بأن الإسلام بدأ ينحرف
عن خطه المستقيم, فانقسم المسلمون إلى ثلاث طوائف سياسية متحاربة: السُنّة أتباع
معاوية, والشيعة أتباع علي, والخوارج الذين خرجوا على الاثنين معا. الدروز نشؤوا في
حوزة الشيعة الفاطمية الإسماعيلية، نسبة لفاطمة الزهراء والإمام إسماعيل ابن جعفر
الصادق, ولكن من يتتبع تطور دعوة الدروز يرى بأنها لم تكن على وفاق دائم مع الدعوة
الإسماعيلية، حيث أنها نحت منحا فلسفياً جدلياً، يعتمد على تحكيم العقل أكثر من
اعتمادها على النصوص الحرفية للقرآن, ووقفت موقف الحياد من الحديث النبوي, كما أنها
جمعت بين الرسائل السماوية الثلاث, التوراة والمسيحية والإسلام, واعتبرتهم رسالة
واحدة نزلت في أوقات مختلفة لتكمل بعضها البعض, وأضافت على ذلك فلسفة فيثاغورس
وإفلاطون وافلوطونيوس، ممزوجة بنفحات من الحكمة الفارسية والهندية والصينية, وجعلت
من التقمص محوراً رئيسياً لتفسير هذا النحو الديني الفلسفي الجديد، الذي يعتمد على
العقل أكثر من اعتماده على النص. هذا النهج الروحي أحدث جدلاً واسعاً، و لم يلق
تأييداً كبيراً في الأوساط الإسماعيلية، وأثار حفيظة الأوساط السنّية التي اعتبرته
خروجاً على الإسلام.
واختفى مذهب الدروز من مصر وشمال إفريقية، بعد اختفاء مؤسسه الحاكم بأمر الله
الفاطمي, ولكنه لقي بعض التأييد في بلاد الشام. ولو تفحصنا القبائل التي تقبلت دعوة
التوحيد، لوجدنا بأن معظمها كان يعتنق المسيحية التوحيدية قبل الإسلام, ولا يمكنك
أن تجد أحدا ينحدر من قبائل كانت وثنية.
إذاً, فالرباط العشائري موجود والتشابه العقائدي موجود، والاسم واحد, وهذا يكفي
للقول بأن جذور التسمية تعود إلى المسيحية القديمة.