رمزية الاحتجاج
ما بين فقدان المكيفات وفقدان الوطن
نزيه بريك - 23\12\2008
الحقيقه عندما قرأت ما كتبه الصديق وهيب تملكني الإحساس بأنه لا يمكن لي أن أمر على
ما كتبه مرور الكرام، لأنني وجدت نرجسيته قد أخذته إلى حد التطاول بوقاحة على كل من
امسك بقلمه وكتب عن حادثة
حذاء منتظر الزيدي. وأنا كنت واحدا من أولائك الذين كتبوا. ولم يسعفه عقله المنفتح
المنغلق على التفرقة بين أشكال التعاطي المتباينة وخلفية كل من تعاطى بهذا الشأن.
خاصة وانه تربطني به علاقة منذ عديد السنين ومعرفة شخصية عميقة.
إن لم يرق للأخ وهيب كيف تعامل البعض مع قضية الزيدي فهذا حتما من حقه، لكن أن يوظف
مصطلحات اعتاد أن يدور في فلكها في صياغة نصوصه فهذا خروج عن الحد الذي على الأقل
أنا لن أقبل به، ولكن إن دلّ هذا على شيء،فحتما يدل على عمق السطحية والسخافة التي
سقط فيها الصديق وهيب.
لقد استشاط السيد وهيب غضباً من فعلة ذاك الصحفي العراقي وصب غضبه عليه، فكتب:
"إن ما فعله الزيدي لا يعدو وصمة عار في جبين الصحافة
والثقافة التي يمثلهما...."
يتحدث السيد وهيب عن هذه المهنة الجليلة، وكأنه حقا يحاول أن يقنعنا بنزاهة الصحافه
وان هناك صحافة محايدة، وهو من يدرك تماما أن الصحافة على مدار تاريخها وما زالت
حتى اليوم تُصَنف كـ " صحافه يساريه، صحافه يمينيه, صحافه ليبراليه، ....الخ" وينسى
أنه ليس هناك صحافة (وخاصة السياسية) بدون انتماء سياسي وفكري لجهة ما، وينسى الأخ
وهيب أن معظم الصحافة والصحفيين في الغرب، وخاصة في أمريكا، قد وظفوا كل طاقاتهم في
التمهيد للنظام الأمريكي بغزو العراق، يعني أن هذه الصحافة شاركت ولعبت دورا في قتل
مئات الالاف وتشريد الملايين في العراق وغيره، ويأتي هنا ليتفلسف حول مهنة الصحافة.
يبدو أنه غاب عن عقل الأخ وهيب أن منتظر الزيدي قبل أن يكون صحافي فهو ابن هذا
العراق الذي ينزف يوميا بعشرات القتلى من الأبرياء، وهو الذي أصر على البقاء في
وطنه والنضال ضد الاحتلال، رغم أنه كان بإمكانه أن يدير ظهره ويرحل عن بلده. أو
ربما يرى الأخ وهيب أن احتلال العراق قد طال مثلما طال احتلال الجولان، ولذالك لم
يعد هناك حاجه لهذه الأساليب "الهمجية" .
بما أنني هنا مررت على ذكر الجولان فقد تذكرت حادثة الاخ وهيب يوم كان في المجمع
الطبي وتضايق من عدم وجود مكيفات هوائيه في المبنى، بعد أن رشَحَ جبينه بالعرق ولم
يحتمل الأمر فعاد إلى البيت مسرعا، أمسك بقلمه وصاغ نصاً، هاجم فيه جمعية الجولان
للتنميه واتهمها "بالفساد وهدر الأموال". وهنا أعجب ممن يسمح لنفسه أن يمتعض من عدم
وجود مكيفات هواء، ولا يعطي الحق لمن ينزف وطنه من الاحتلال أن يعبر عن ألمه بتلك
الطريقة، إلا إذا كان يعتبر احتلال العراق اقل وطأة بكثير من احتلال الجولان.
وربما يكون الأخ وهيب قد اخذ مسالة مكيفات الهواء كرمز لحالة "الفساد" التي يدعيها
ووظفها كمدخل لموضوعه، لكن في نفس الوقت كيف يأبى على الآخرين (وأنا منهم) أن
يتناولوا الموضوع من جانبه الرمزي.
ربما غابت عن وهيب أن حياة الإنسان الفردية والجماعية ومن أقصى إلى أدنى الكرة
الأرضية مليئة بالرموز. السياسة، الأدب، الفن والتراث، كلها ثرية بالرموز، وإن
إدراك طاقة الرمز وتأثيرها على المجتمعات البشرية أمرٌ لا يستهان به. وإلا لماذا
قامت قوات الغزو الامريكية "المتحضرة" ومعهم بعض العراقيين وبعد سقوط بغداد،
بالإصرار على إسقاط تمثال صدام حسين. أليس هذا التصرف جاء من إدراك طاقة وفاعلية
الرمز، فمسرحية احتلال العراق انتهت بالمشهد الأخير وهو سقوط بغداد وقفلة هذا
المشهد قامت على إسقاط التمثال ولطمه بالأحذية، ليعلنوا أمام العالم كله نهاية
الحقبة "الصدامية".
ولكن بالتأكيد لم يدركوا أن السِحِر سينقلب على الساحر، وأن نهاية سياسة الجمهوريين
ونهاية الحقبة "البوشية" سيتم قفلها كذلك بمشهد الحذاء.
ولماذا قام ضباط "الأمن" الأمريكان وصبوا غضبهم على حذاء الزيدي ومزقوه، أليس
لإخفاء هذا "الرمز" من أن يدخل متحف ما وحتى في أوروبا نفسها!؟ ألا تشكل مرحلة "ما
بين الحذاءين" أقذر مرحلة إجرام في تاريخ أميركا "الديمقراطية".
ولماذا تفاعل الحزب الديمقراطي الأميركي مع موضوع الحذاء وأصدر بيانا يقول فيه: "إن
هذا الحدث هو دليل على فشل سياسة بوش في العراق، ودليل على فشل هذه الإدارة في
الدفاع عن السمعة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية. فسمعة الولايات المتحدة باتت
في الحضيض".
ولماذا أرسلت السفيرة الأمريكية بالقاهرة مارجريت سكوبي، خطابا شديد اللهجة إلى
وزارة الخارجية المصرية، أبدت فيه احتجاجها على تعرض رئيسها بوش للهجوم في وسائل
الإعلام المصرية، في أعقاب حادثة الزيدي برشقه بالحذاء واعتبرته "تطاولا" من
الصحفيين المصريين على بوش، أليس لأن بوش هو رمز الجبروت الأميركي؟
لماذا تركت الممثلة الشهيرة مارلين مونرو حذاءها للجنود الامريكان في فيتنام، اليس
لانها ارادت توظيفه كرمز وهي ذاتها من اكبر رموز السينما الأمريكية، وماذا نقول عن
فان كوخ الذي وظف عبقريته ورسم فردة الحذاء؟ وهل هدر وقته في رسم الحذاء. وماذا عن
حذاء "سندريلا" وقصة الامير في أدب الاطفال؟ الم يوظف الحذاء في كل هذا كرمز
لدلالات معينه؟
عندما يوجه الحذاء نحو رمز من رموز الإجرام بحق البشرية، وعندما يقذف ذاك الحذاء
شخص يعيش هذا النزيف اليومي لوطنه،- وليس على شاشة التلفاز مع كيس "تشيبس"- ويطلق
على رميته "قبلة الوداع" وباسم القتلى والمهجرين واليتامى والأرامل والمحتاجين، فلا
شك أن لتلك الفعلة دلالات كثيرة، لكن على ما يبدو أن البعض يصعب عليهم إدراك هذه
الفاعلة.
يقول الأخ وهيب "هذا الانفصام في الشخصية العربية على مختلف
مستوياتها يعبّر أقبح تعبير عن مدى التهتّك النفسي والتشظي الفكري لأمة استساغت
استبدال عقلها بحذائها....." ويتابع " لو قام
مُحتجّون متظاهرون برمي بوش والمالكي أيضاً بأحذيتهم أو بأي شيء آخر لكان الأمر
طبيعياً ولا حَرَج فيه، لكنها ليست مهمة الصحافي" ان ما ينتقده السيد وهيب
من التهتك النفسي والتشظي الفكري، يمارسه بكل أبعاده، فمن جهة يستنكر ثقافة التعبير
بالحذاء ومن جهة أخرى يعود ليشرعها لو مورست من الجمهور. أليس هذا تناقضا واضحا في
الموقف؟ وليقل لي السيد وهيب كم مرة رأى السيد بوش يتمشى في شوارع بغداد، ليتمكن
المظلومون من رميه بالحذاء أو بالخضروات التي يفتقدها مئات الآلاف من العراقيين في
ظل الاحتلال. أليس لأنه مدرك تماما لجرائمه بحق الشعب العراقي، فهل تجرأ ولو مرة
واحدة الإعلان عن قدومه إلى العراق مسبقا، وهل تجرأ مرة واحده على الخروج خارج
أسوار "المنطقه الخضراء"؟
ويتابع بالقول: " ... ومنتظر الزيدي بكل بساطة رمى مهنته
الشريفة هذه بفردتي حذائه." وهنا أسأل الأخ وهيب: ألم يرمي مواقف بحذائه من
أجل أشياء لا يجوز مقارنتها بمعاناة ذاك الصحفي العراقي؟ ألا يمر كل فرد بظروف
وطأتها اقل وجعا من وجع العراقيين وتجعله يدوس بقدمه على ما اعتبره في مرحلة ما من
ثوابته؟
يعتقد الاخ وهيب " أن في ذاكرة الأمريكيين حذاءً واحداً ترك
لديهم جرحاً وأثراً أليماً، وهو حذاء السفير الأمريكي في "سايغون" الفيتنامية عام
1975" يقول هذا وهو العارف ان فقدان السفير لحذائه ليس هو ما افقد أميركا
سيطرتها على فيتنام ، لكن ذاك الحدث شكل رمز إقفال مرحلة الوجود الأمريكي في
فيتنام، فدخلت فردة الحذاء المتحف والتاريخ، وهنا أعجب من تماهيه وتهليله لحذاء
فيتنام، في حين يستهتر من حذاء العراق، في حين أن كلاهما يحمل رمزا معيناً. أو ربما
أورد الأخ وهيب حادثة السفير هذه من مبدأ ثقافة "هل تعلم"، وانطلاقا من هذه الثقافه
يعود ويتماهى مع تعريف الفيلسوف الأمريكي "أوليفر هولمز" للحق، على النحو التالي: "الحق
يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأُخرى..." ليبدو انه يُشرع لقانون
الغاب.
وأعجب ممن كان بالأمس يتحدث عن الحكومة العراقية بانها جاءت على ظهر الدبابة
الأمريكية، واليوم يُعرّفها بـ "حكومة المالكي المُنتخبة
ديمقراطياً من غالبية الشعب العراقي".
يعبر السيد وهيب عن اشمئزازه من الضجة الإعلامية والأدبية التي مارستها وسائل
الإعلام العربية "المتخلفة" ولا يغيضه الإعلام الغربي "المتحضر" الذي اشغله الحدث
بنفس الكم، فقد قامت فتاة أمريكية بإجراء مقابلة افتراضية طريفة بعنوان "لقاء حصري
مع الأحذية العراقية التي رميت على بوش"، تقمصت فيها دور حاكمة ولاية الآسكا
والمرشحة الجمهورية السابقة لمنصب نائب الرئيس الأمريكي ساره بالين، والتي كانت
تؤيد الحرب على العراق، فكانت تقول للحذاء "ألا تشعر بالخجل من نفسك حينما ترمى في
وجه الرئيس الأمريكي"، فنظر الحذاء إلى الأرض خجلا وقال "نعم أنا أشعر بالأسف لما
فعلت، أنا فعلا نادم على ذلك.. وإظهارا مني للندم فأنا سأقدم لك هدية تظهر حسن
نواياي، وهي طقم مكياج عراقي الصنع لأننا نعلم أنك أسرفت في المكياج الأمريكي وفشل
في تحسين وجهك القبيح"، ثم انفجرت الأحذية بالضحك ساخرة منها.. مما أغضب سارة
بالين.
كما قام أحد هواه صناعة الفيديو بعمل ريميكس غنائي عن الحادثة سخر فيه من مرونة جسد
بوش، وعلى مستوى التصميم والبرمجة انتشرت في مواقع الإنترنت عشرات الألعاب الفلاشية
التي تسخر من رمي بوش بالحذاء، كما انتشرت فانيلة "تي شيرت" مرسوم عليها بوش لابسا
زي مقاتلي النينجا وحاملا السيف، ويمزق الأحذية التي تتجه نحوه، وفانيلات أخرى
عليها صورة بوش مكتوب بجانبها "وداعا أيها الكلب" وهي ومعروضة للبيع في موقع ebay
الالكتروني.
ويسخر الأخ وهيب من الذين ابدوا استعدادهم لشراء حذاء الزيدي ويعتبرها تخلف، وهنا
تذكرت حادثة سقوط جدار برلين، وكيف جاء كثير من الذين حرك فيهم هذا الحدث مشاعر
معينه ومن جميع ارجاء اوروبا واميركا الى المانيا لشراء قطعه من جدار برلين، وكان
ثمن القطعة مرتبط بحجمها. أليس إقدامهم على هذه الخطوة قام على المعنى الرمزي لهذه
القطعة المكونة من الاسمنت المسلح؟ ولماذا وضعت الحكومة الالمانية قِطعاً كبيرة من
هذا الجدار في متحف برلين؟ أليس لان هذه القطع فيها دلالة ورمزية على انتهاء مرحلة
تقسيم ألمانيا؟ بالإضافة إلى رمزيتها بانتهاء الحرب الباردة والانتصار على المعسكر
الشرقي.
ويتابع الأخ وهيب في هجومه،(الذي يشبه هجوم الجيوش العربيه عام 67) على كل من سولت
له نفسه أن يكتب قصيدة عن ممارسة اليزيدي، فتراه يضع كلمة شعراء قاب مزدوجين، وهذا
فيه دلاله على الاستخفاف وعدم الاعتراف بأي منهم، ويستفيض في الهامه ليجد مرادف "لوادي
عبقر" الذي كان حسب الاسطورة يلهم شعراء الجاهلية، وقد أسماه "وادي
الصرامي الذي يلهم شعراء عصر الحذاء"، وهنا أعطيه كل الحق على هذا
الاستخفاف، لأنني وبكل صراحة وفي كل مرة كنا نجلس معا، كان يعتريني إحساس قوي بأن
المتنبي يأتي بعد الاخ وهيب بدرجة إن لم يكن بدرجتين. ويتابع الدوران في فلك صناعة
المصطلحات ليخترع مصطلح "المفكرين الحذائيين" ليوظفه
في وصف كل من أجاز لنفسه التفكير في دلالات الحادثة. وهنا حقا لن احرمه من هذا الحق
باستعمال هكذا مصطلحات، بعد أن أصبح في نظر البعض "المفكر والاديب"، ويسترسل في
اقتراحاته ليطال اغنية ام كلثوم "اصبح عندي الآن بندقية"، ويقترح استبدالها باغنية
"أصبح عندي الآن قندرة". ومرة أخرى لن أسلب حق الأخ
وهيب بهذا الاقتراح، خاصة وأن حائط غرفته مليء بالبنادق من كل الماركات، وبضمنها
بارودة الصيد.
في النهايه ساختتم مقالتي بالقول، بانه لو أقدم صحفي عربي على ضرب زعيم عربي
بالحذاء، لكان وهيب فاض فرحا بالحادثة، واتخذ موقفا مغايرا لموقفه من فعلة اليزيدي.
وأخيراً ألا يرى الأخ وهيب أن حذاء الزيدي الذي خلق صور متباينة من التفاعل على
امتداد العالم، وهذا جعله يمتعض من هذه التفاعل، هو نفسه دفعه ليتفاعل معه وعلى
طريقته وأهدر وقته على ما يعتبره سخافة، أما إذا كان يعتبر نفسه المسيح المنتظر،
فاعتبر أن تفاعله يقع خارج نطاق ثقافة "هدر الوقت".
إقرأ أيضاً:
- بين
الحذاء والمواطن العربي، عِشْرَةُ عُمْر (وهيب أيوب)
- قف
لمنتظر (نزيه بريك)