قالتها في قلعة النمرود: «الآن جاء دوري
لأقبلّكَ»
داوود الجولاني - 22\12\2008
لَم أَكن أدري أن ولعي بنقش اسمي واسمها على ساق شجرة اللوز سيشّدني، بعد عشرين
عاما، لأدرس العزف على آلة العود، لدى صانع للموسيقى من خشب أشجار اللوز المترامية في
ريف دمشق.
الطفلة التي نسيت اسمها والتي كانت تلاعبني ونحن صغار لم نبلغ الخامسة. اختفت في
العام الذي سقطت فيه تحت وقع القنابل جدران البيوت في مدينة القنيطرة. قيل لي
وقتها أن زينب قضت نحبها تحت جدار سقط.. وصدقت الكلام. لكن هاجس حَلّ فيّ ورافقني
لسنين - "ما زالت حية في مكان ما". ثم نسيت الهاجس ونسيت الطفلة،
حتى عدت من دمشق بعد دراسة لم تستمر لأكثر من سنتين.
ودعّت معلمي في إحدى حانات باب
توما بعد أن قال لي: "أنت صرت تعرف تاريخ صناعة العود وتجيد ترديد المقطوعات
الموسيقية، ولكن لا يكفي أن تعرف أننا مازلنا نختلف حول هوية صانع العود، فإن كان
صانع العود الأول هو ابن من أبناء آدم، أو هو نوح الذي فقده أثناء الطوفان، أو هو فيثاغورس اليوناني، أو ملك من ملوك الفرس.. لا يهم، فاذهب
إلى قريتك هناك في الجولان وابحث عن لحنك فهو في مكان ما هناك موجود".
وهكذا عدت لقريتي فاشلا لأني لا أحمل شهادة في مهنة الطب المرغوبة والمحتفى فيها،
ولهذا لم يكترث بي أحد. لكن عبوري لمعبر القنيطرة وأنا أحمل آلة العود لفت انتباه
جندية إسرائيلية شديدة الجمال، فقالت بلكنة عربية تدل على أنها من أصل عراقي : "أبي
مازال يجيد العزف على العود رغم كبر سنه". شعرت بفرح
ألهب مشاعري، لكن الجندي الذي تقدم مني ألغى ما بيني وبينها من نظرات تبادلناها، وفتش
العود كأنه قنبلة، أكثر مما فتش حقائبي وثيابي.
في هذه اللحظة تذكرت الطفلة، وتذكرت اسمها، وتيقّنت أن زينب لم تمت تحت جدار سقط،
فقررت البحث عنها... وبدأت الأسئلة تعبث بي:
لماذا سقطت الجدران؟ لماذا رحلت؟.. الأجوبة كانت تفر مني حتى صرت
أسأل لماذا أنا أسأل.
في وقتي الذي قضيته في البحث عن زينب لم أقرب العود، حتى أحسست أن أصابعي تحولت من
جلد ودم إلى قطع من حبات ثلج، حتى تناهى إلي خبر أن ثمة فتاة يشابه عمرها عمري تسكن
في قرية عين قينيا القريبة لقلعة النمرود، تقول أنها تتذكر حياة قديمة عاشتها منذ
النمرود، مرورا بعصر الصليبين والمغول، وأنها تتذكر معركة عين جالوت ودمار القنيطرة.
قلت لمحدثي الذي اخبرني عنها :"أنها هي.. لقد وجدتها، وأنها تتقمص التاريخ، وأني وجدت
من يصنع لي معزوفة أقدمها لمعلمي الذي يسكن في باب توما، واثبت له إني وجدت لحني. "فرد ساخرا: "دعك من الجنون، أنها مجرد مخبولة، راحت في إغفاءة وهي تموت،
وقد عجز كل أطباء جامعة دمشق عن شفائها، فأي نص ستكتب لك لتعزفه أناملك المثلجة؟!".
تجرأتُ.. شددت الأوتار الخمسة لعودي ودخلت محرابها المتوج بصمت شفاهها. مررت بإصبعي
على الوتر الأول، فرفعَت رمشيّ العينين وقالت: "كف عن العزف وخذني إلى قلعة النمرود،
فهناك ستصيغ لحنك".
وقفنا معا فوق تله من تلال حرمون، ونحن أقرب للسماء من الأرض، تحيطنا أسوار من حجرٍ
صلد نبت العشب فيه بين حجر وحجر، فبدت القلعة
مثل مقبرة هجرتها جثث الموتى؛ من منتصرين عظام ومهزومين لا يقلون عظمة.
تقدمت وهي أنثى جامحة, صعدت درجاَ حجريا نحو برج
عالٍ، ووقفَتْ مثل غيمة تهزها ريح خفيفة و قالت:
"ها هي القلعة. كان نبتها السنديان والزيتون وماؤها سيل بارد، والآن صارت موحشة, سكنها محاربون قدماء، ومنها أطلق الجنود السوريون قذائف مدافعهم نحو الغزاة اليهود،
ولكنهم لم يفلحوا في ردهم... سكانها الآن من القطط والكلاب الشاردة وزوارها
سائحون أربيون". وأكملت: "انظر هناك حيث المنحدر والوادي، ثمة ذئبة هي ذاتها التي
رافقتْ حاكماَ متكبراَ ذا جبروت اسمه النمرود، شدني من
شعري وأطعم ألذئبة لحمي، بعد أن دنس زبانيته ثدييّ المفعمان بالحليب... قالوا لي
فيما بعد أن
الله عاقبه بأن أوجع رأسه بذبابة دخلت انفه، فمات تحت وقع حذاء
سقط من منزل وهو يتجول في مدينة بانياس.. أتذكر بانياس وغدرانها، كم سبحنا في برك
مائها.. هم ردموا الماء في البحث عن تاريخ يخدر ضميرهم بأسطورة لوجود سابق..
هم كذبة لا تصدقها، ولا تصدق أن الله عاقب النمرود لاغتصابي.. هم وحدهم الذين
سأحكي عنهم غضبوا لأجلي وتسلقوا جدران القلعة وداسوا بأحذيتهم عرش النمرود..
والذبابة بريئة من الأسطورة.
قلت في نفسي، وقد لسعني برد قادم من حرمون: "لا شك أنها تتقمص التاريخ، فكيف تعرف
الحكايات تلك!؟ وأي شجاعة تجعلها تقف فوق برج القلعة في مواجهة السماء؟ هل تحسب
نفسها طير غرره جناحاه بالتحليق نحو علو لا يطأه غير الحلم.. ولماذا يتمايل جسدها مع
الريح مثل راهبة في معبد تسكنه شهوة الحياة؟
..تكاد أن تسقط من فوق البرج، ولكن بعد أن عبر السماء صوتُ لرعدٍ تبعه نزول مطر
صاخب سريع الهطال،
نزلَت من فوق البرج بخطى ثابتة على الدرج الحجري، وهي تضمُ قطراتَ المطر التي دخلت
في فتحة قميصها،
بأن لفت ذراعيها حول نهديها، وتعجبتُ إذ شممتُ فوق خديها رحيق لدمع أو لرذاذ ماء.
قالت، بعد أن جمعت بعض لحاء شجر السنديان والزيتون: "هي النار.. أشعلتها لك, دفئ
ضلوعك
وأسمع خفقات جناحي الطير فيك.. هي سهول الحولة أمامك، وبحيرة طبريا سيغمرها
الظلام.
وأغمض عينيك قليلا وشاهد كيف أن المطر يرتعد من مرور حوافر خيل المغول فوقه... هل
ترى
كيف بالحبر والدم تلون الماء الجاري في الوادي؟.. حدق قليلاً.. هناك نحو الشرق
ثمة قرية تحترق..
بغداد ليست وحدها تحترق.. أترى ذاك الطفل الذي يقطف حبات الزيتون؟ أترى كيف
المغولي يشده
من شعره لسرج الحصان؟ أتعرف ابن من الصبي وما اسمه؟...
كان المغولي غبياً, لم يقتل الصبي, طمع بحفنة مال فباعه في سوق الرقيق في دمشق.. لكن
الصبي كان يحمل
اسما.. أنا ولدته من بطني, وأنا سميته الظاهر بيبرس..".
ثم سكتتْ، ويبدوا أنها شعرت بالبرد مثلي، ثم عادت وأكملتْ:
"قرّب أصابعك من النار, أعطِ لأناملك وخز اللهب, لتشتعل فيك الرغبة في معرفتي".
قلتُ: "صار البرد عن جسدي بعيدا, ولكن روحي أصابها سهم يدمي, واني حزين على الصبي
وأخاف أن يتألم".
فردت، وكأنها طير خرج من شعلة اللهب:
"قد أصاب قلبك الحزن، فلعلَ شفتاي اللتان لا تعرفان سوى طعم الريح, تخففان من حزنك, قبلهما ولا تخشى".
قَبلتُ وقبلتُ وقبلتُ...
فأكمْلت:
"الصبي مثل حبة قمح كبرت وصارت سنبلة, رعاها الحاصدون وتذوقوا طعمها جياع الحارات.
أحبه الناس،
ولما اشتد عوده صار أميرا في مصر، فطرد كل حاشية الملك وقرب إليه العامة، وقص عليهم
أخبار الكتب
التي رميت في دجلة، وحاور ذوي المعرفة والحكمة فيهم، ولما اشتد عزم الناس هزم
المغول في معركة "عين جالوت"، ثم أعاد بناء القلعة من جديد، وأقام المدرسة الظاهرية
في دمشق,
وأتاح للناس الاستحمام بماء نظيف، وكَثُر لديه الكتّاب والناسخون، وجرى الماء
في قنوات وروى الزرع، وأَعطى الأمان للطيور فحلقت, ونظم الشعراء القصائد، وَلحنت
ألحانُ فصدحت أصوات ورقصت غزالات.. فاختفت الذئبة...".
لما أنهت كلامها أحسست أن القلعة تملكتني، وأن جسدي غمره جواب لأسئلة عدة،
فتقدمت منها تحملني دوامة ريح عاصفة، تنتزعني من مكاني وتأخذني إلى أزمنة غابرة، ثم
تعيدني لحاضري،
فقلت لها، وأنا أتمنى لو كان معلمي الدمشقي حاضرا: "لم تسقط كل الجدران بعد يا زينب".
وشرعت أعزف على عودي، فانساب اللحن إلى روحها، فهزها وجد وطرب، فردت علي ببسمة عرافة
وقالت: "الآن جاء دوري لأقبلّك.".