تناسخ
نضال الشوفي - 03\01\2009
هنا انتهيت وحيداً، فغيّبني تعب المسير، وهدوء المكان المظلَّل بالشجر. في حلمي
رأيت الحياة مملكةً مسوّرةً بحائطٍ قديمٍ أخضر. كانت عروقي خيوط عنكبوت مشدودة
إليه، وقلبي فراشة تنازع كي تطير، فتحكم على نفسها الوثاق.
ويرشح في مسام الجدار دمي
وأصيح من ألمي
فيرتدُّ صوتي إليّ
يلملم روحي فتاتاً
من العدم
يصّعدها بزفرةٍ أخيرة
ويودعها في مدار الغيم.
روحي الآن فوق غيمة، تسبح في الفضاء الحر الفسيح، وتطل على الجدار الأخضر، الأبيض،
الأحمر... باحثةً في مراميه عن فسحةٍ للون ضائع ...
بعد حين، في المكان الهادئ المظلّل بالشجر، أجفلني صوتٌ هادرٌ، يعلو صوت لهاثي
ويخنقه. فتحت عينيَّ، فأصاب نظري الضعيف طفلاً بطول عكازي، يعكِّر صفوَ الماء
بالحجارة. اقتربت من الطفل، تأمّلت الوجه ملياً، كانت عيناهُ سوداوين، ووجهه ملطخ،
وقدماه عاريتان موحلتان، لكنهما قويّتان، تقدران على اجتياز كل جدار.
رابني ما أرى، فصحت به، لكنه ظل مستنكفا عن مصدر الصوت.
اقتربت أكثر متمليا وجه طفل خلت أني رأيته مرارا في مرآة بيتنا منذ عقود، حدثت نفسي
بصوت خافت متقطع:
"إنه يشبهني، لكنني لم أكن وحيدا ذات يوم، كنت مغمورا بالوجوه وبالقبل، وأحيانا
بأوامر أبي العبوس".
أغمضت عينيّ محاولا استجماع بقايا صور من زمن بعيد، وعندما نجحت، فتحتهما لأرى كل
شيء قد تلاشى، قلت في سري:
" لعل خيالي يسيح ماء وأطفالا وحجارة " .
ثم عدت إلى المقعد، أكور قوامي الضئيل قرب مسنده، حاضنا عكازي، مستسلما لأعطاب
جسدي، وعيناي مسمرتان على مشهد إيقوني لولد مموه المعالم يقف وسط بقعة من ضوء ساطع،
يلوح عند قطب مقابل لنفق مديد تهم روحي بعبوره
تحشرج صدى صوت بداخلي:
"إنه المشرد الذي سأكونه في حيواتي القادمة"
أمعنت النظر ما استطعت، فرأيت في بؤرة الضوء أقدام كثيرة تغوص في الوحل:
"إنه ماا سوووف نكووووون"
تهالكت، تلكأ نبضي، تثاقلت رئتاي، أسلمت نفسي لسهاد لا أحد يعرف كم يطول إلا
الله...