ليلة حرب في غزة
داوود الجولاني - 12\01\2009
إنها تغريد التي كانت تشغل بالي في تلك الليلة الماطرة من ليالي الحرب على قطاع
غزة.
قناة الجزيرة المبجلة والمثيرة, كانت تشدني لمتابعتها بقدرتها وخبرة طاقمها الفني
على نقل صور الدمار والموت الذي ترونه كما أراه، والذي تبثه كل ساعة أو نصف الساعة،
حتى أدمنت وجبة الموت السريعة والمجانية للاختفاء الجماعي لبشر مثلنا.. ذنبهم أنهم
يقطنون مدينة تسمى غزة. وصرت دون وعي أفرح للحظات سريعة، كلما زاد ذوبان الجسد
الفلسطيني من حرارة مرور الصواريخ في جدران المنازل.
ولكني سرعان ما ألوم نفسي وأنا أتسال: "هل موت أكثر، صار يساعدنا على إثبات أن
إسرائيل دولة مجرمة؟ هل موت أكثر، والتفنن في عرضه على شاشة التلفاز كأننا جثث
معلقة في مسلخ للمزاد العلني، يثبت للعالم أننا ضحية؟ ألم نقتنع حتى اليوم أننا
الضحية؟ أم صرنا نتلذذ بالموت ونستسيغ سلخ جلدنا لنكفر عن عجزنا عن حب
الحياة؟ أو عجزنا عن مقاومة السادي المتربع فينا؟
حتى أني سألت نفسي :"هل يحق لي الكتابة عن فتاة من غزة فبل أن أتلقى الأذن منها"؟
قبل سنين في معهد المسرح في جامعة دمشق قالت تغريد لي: "أنا فتاة من غزة، لي حلمان:
أولهما "أن أرقص مثل جنية الماء فوق مسرح في غزة، وأن أبيع التذكرة الأولى لمشاهد
أزلي هو البحر"، وثانيهما "أن تزرع في أحشائي بذرة طفل يصير بنـّاء سفن وبحارا يشق
بقاربه يم غزة". وكنت أعتذر دائما من سمرة بشرتها ومن لكنتها المصرية، وأنا أقول:
"ابقي هنا، سأهديك شاطئ اللاذقية عوضا عن شاطئ غزة، ولكن لا تذهبي في مشوارك
المحفوف بالمخاطر، والذي إن سرت معك فيه، فقدت مدينتي ومسقط رأسي"، ولكنها كانت ترد
بضحكة أوسع من رقعة البحر: "ليتنا كنا ولدنا فوق موج يأخذنا لكل الأوطان فنختار
بلدا يحبنا.. لكن غزة قدري".
وكانت آخر الكلمات التي سمعتها مني: "أنت مجنونة بهوس العودة وببناء ميناء بحري
يستقبل كل النوارس". وما لم تسمعه مني: "أنت طائشة, حالمة, عاشقة لقدر مكتوب في
أوراق قديمة، لنبي يحب العدالة ويبشر فيها في السماء، بينما يترك لإبليس أن يسكن
الأرض".
بعد سنين علمت أن تغريد تزوجت شابا من غزة، سرعان ما أطلق للحيته عنان نمو الشعر
فيها، ثم قام بهدم ما تبقى من جدران لمسرح بنته تغريد من رمال البحر، وعلمت أيضا
أنها أنجبت طفلا يحب خوض اليم.
نمت في تلك الليلة الماطرة التي دق ماؤها شباك غرفتي، وصوت البحار الصغير يلاحقني:
"أسعفني من موجة
ثقبت قاع قاربي المحمل بالسمك وفواكه البحر"، حتى أفقت على صباح شمسه تكاد أن تطل
من عجرفة غيوم سوداء، تلبدت في قلب السماء، وكأنها تكونت من دخان عظام محروقة لا من
بخار ماء. أفقت على صوت طفل يقفز مثل فراشة ينزع عني غطائي المدثر بدفء "صوبة"
الحطب، ويدعوني لشرب فنجان قهوة ساخن أمام شاشتي المفضلة، فسمعت المذيعة الجميلة
صاحبت الذوق الرفيع في اختيار ألوان منديل رأسها تقول: "وردنا الآن من مراسلنا في
مدينة غزة، أن طاقم الإسعاف الذي أذنت له السلطات المصرية عبور معبر رفح، وجد طفلا
بقي لثلاثة أيام يشم رائحة كريهة تنبعث من جسد امرأة قال أنها أمه.. وأنه كان يمسك
بيديه قطعة من زجاج نافذة تكسر، شكله شكل مشط، يمشط فيه شعر أمه ويصرخ فيها: "لقد
بزغ الفجر فقومي من نومك.. فاني ذاهب لأنشر شبكة الصيد في عرض البحر"...