البقرة وقعت في الساقية
داوود الجولاني - 11\02\2009
منهكُ، في ظهره أكثر من "دسك"، وهو الذي يحمل من العمر ما لا يزيد عن الأربعين عاما
إلا سنتين. هده وأتعبه حرث وتقليم أشجار المستوطنات في الجولان بسعر بخس. معاشه لا
يكفي مصروفات بيته نصف الشهر. مظهرهُ الخارجي يوحي للناظر إليه بأنه يشبه بقرة
بلهاء. ضرعاها منتفخان من ثقل الحليب لا يمصهما سوى ثور هولندي تربى في مزارع
اليهود .
كنت ألقاه صباح كل يوم جمعة في بنك العمال في قرية مجدل شمس، وهو يستجدي موظفة
البنك أن تعطيه قرضاَ . فتبتسم ، وبأناقة قميصها الأزرق المفتوح ، تقدم له فنجان
القهوة وتقول : " اعذرني لا استطيع."
لكن يوم الجمعة هذا، السابق لذكرى الرابع عشر من شباط، لم يستجدِ أحدا، ليس لأن
ثروة هبطت عليه، ولكن.. لأنه لم يأت إلى البنك.
ولكوننا أبناء ميلاد واحد. سقطنا من فرج امهاتنا في اليوم السادس من شهر حزيران سنة
سبع وستين وتسعمائة وألف، وتربطنا صحبة قديمة، زرته في بيته فوجدته طريح الفراش
خائر القوى، يسعل، مصدرا صوتا مثل صوت الغسالة القديمة وهي تعرك الثياب المتسخة.
بادرني الكلام قبل أن أسأله عن صحته قائلا: "لست مريضا ولكن حنقي على سمسار العمال
"כוח אדם" جعلني أقذف هذه الحمم القرفة
من فمي. فقد أعلن لنا اليوم أن ضائقة مالية ألمت به، وانه لن يدفع لنا أجرة
الشهر.. ومما زاد صدري قرفا انه ذكرنا بعد أن أعلن إفلاسه أن غدا ذكرى الرابع عشر من شباط، وانه علينا التواجد
في ساحة سلطان الأطرش الساعة التاسعة صباحا، ثم أدار محرك سيارته الخنزيرة وسافر مسرعا بحجة أنه مدعو لاجتماع عاجل من أجل ذكرى
الإضراب"...
هنا انتهى حديثه، بعد أن غطى عينيه ضباب رطب، سرعان ما انقشع عن صفاء فيه أسئلة، فعاد ليجيب
وكأنه كان يسأل نفسه: "المال معوض.. خاصة
وأن اللجنة الجديدة لتسويق التفاح إلى
سوريا قد بشّرت بأن حكومتنا قد قررت شراء التفاح بسعر يغطي التكلفة، ويبقي لنا ربحا نستغني فيه عن
العمل في مستوطنة عين زوان، ويجعلنا نهتم بأرضنا أكثر".
غادرته وأنا لا أعرف بالضبط إن كان جادا في كلامه أم كان ساخرا،
فسعاله المتكرر
حجب عني سماع رنات صوته. ولكن ما تيقنت منه أنه سيذهب غدا دون شك إلى ساحة سلطان، وذلك بعد أن
قال: "سنلتقي غدا فربما ننقذ البقرة التي سقطت في الساقية".
لم أفهم ما يرمي إليه.. أنا أشبهه بالبقرة.. وهو يبحث عن بقرة سقطت في الساقية.
تقدم خطوات وخطوات.. كانت الكراسي معدة سلفا حيث جلس فوقها وجهاء القوم من زعماء
عائلات ومن لجان بردات ولجان تسويق ولجان وقف ، ومن ضيوف عرب اعتدنا على تسميتهم بعرب الثماني والأربعين،
ثم شاهد كيف أن رجال ما قبل وما بعد عام "السبعة وستين"، وبينهم سيد رزقه ومن أعلن
إفلاسه يدورون حول تمثال الباشا، مثل بقرة يربطها بالتمثال عود من خشب، لكن لا ماء
يخرج من أرض ولا ينزل من سماء، يرددون شعارات تكرر سماعها:
"سوريون بحلف الدم أسقطنا قرار الضم.. من الجولان التحية للقيادة السورية".
قال لي وقد وقفت إلى جانبه: "أي قرار أسقطنا؟ يخيل لي أن القرار قد أسقطنا، ثم
أنهم وعدونا بخطاب جديد فأي خطاب سنسمع اليوم...؟"
أجبته: "أنتظر وستسمع.. ولكن قل لي ما قصدت بقولك البقرة وقعت في الساقية؟"
نظر إلي باستهتار ثم أشاح عني بصره، وقال: اسمع ما يرددون.. فسمعت: "غزة رمز العزة".. "بالروح بالدم نفديك يا شهيد".
فأكمل: "أي عزة في غزة... لماذا لا نلطم وجوهنا مثل أبناء عاشوراء؟ ونهتف غزة
رمز الذلة.. وأي شهيد سنفديه بالدم فقد سبقنا إلى الجنة.. فأي أخرق سيوافق مقابل دمنا أن يترك الجنة ويعود إلى غزة؟"
قلت له أسكت واسمع.. فسمعنا الخطيب الجديد، بحلة جديدة وببحة صوت متزن، يحتضن
الميكرفون بصوته ويدير رقبته يسارا ويمينا، وكأنه يريد التأكد أن أحدا لن يأتي من
خلفه لينتزع الميكرفون منه، يلعن الأنظمة المتواطئة ويحيي الأنظمة الممانعة ويشيد
بإردوغان العثماني... في هذه اللحظة انفجر صاحبي بالضحك،
فسألته: "ما الذي يزعجك في هذه الشعارات؟".
فرد علي وقد بان الحنق فوق خديه وتحت عينيه، إذ تغضن وجهه، فلسعني بكلماته مثل ذكر
النحل:
"الشعارات لا تزعجني ولا أهتم لها... ما يزعجني اليوم هو أني لم أقبض معاش هذا
الشهر، بينما هو هناك يدور، انظر إليه
كيف يبتسم أمام عدسات التصوير ويتوعد اليهود، وغدا سيقبل أياديهم، وربما أنا
سأقبل يديه حتى يدفع لي أجري". ثم استرسل في الكلام :
"أما بشأن الشعارات تلك، فقل
لي بربك: "هل نسيت أننا سنلعن العثمانيين بعد أشهر في السادس من أيار وبنفس المكان وبصوت
الخطيب ذاته؟. هل نسيت أن حملة التبرعات لغزة لم يشارك فيها أكثر حضور هذا اليوم؟ هل نسيت أن من قتل في غزة ليسوا أبنائي
أو أبنائك، هل نسيت أننا نستجدي المناسبات لنعلن عن وطنيتنا،
ثم بعد يوم واحد ننسى..؟..؟ هل نسيت أننا لم نقف يوما واحد ونطالب بعودة النازحين عن
الجولان؟ هل نسيت أن حكومتنا كانت تناور اليهود على السلام عند اردوغان ذاته؟ هل
نسيت أن حكومتنا تمدح طباخ مؤتمر الدوحة وتصافح أميرها بنفس اليد التي صافح فيها
وزيرة خارجية إسرائيل؟ .... ثم قل لي ما هذا الانتقاد الذي نوجهه
اليوم لأول مرة للموظفين ورجال الأمن الصغار في الوطن؟ ولماذا نذكرهم بأمجاد
الجولان منذ المحتل العثماني حتى اليوم؟ هل نحتاج لشهادتهم؟ هل سيفهمنا من ألغى التاريخ،
ودونَ بداية الكون
من رأس رباط حذائه حتى ربطة عنقه...؟".
ثم سكت بعد أن كاد يسقط من الانفعال، لكني لمحت في عينيه بهجة وكأنهما شفيتا من بله
أو علة، فأدار قفاه للحضور وكأنه يهم بالانصراف.. وهذا ما حدث فعلا... راقبت ابتعاده
وأنا أفكر بكلامه.. ركضت وراءه لأقنعه أو لأحاوره.. ولكنه غاب.. فعدت أدراجي
ودخلت معمعة الدوران حول التمثال.
ملاحظة : تتكون الساقية من قضيب خشبي طويل، حيث يتصل هذا القضيب ببقرة من ناحية،
وآلة لرفع المياه من نبع أو من بئر من الناحية الأخرى.