مكان يبكي
بقلم: جون برجر
ترجمة: فتحيه سعودي
شاهدت حلماً. كان ذلك بعد بضعة أيام على عودتنا، مما اعتقدنا حتى
زمن قريب، أنه دولة فلسطين القادمة، ولكنها قد أصبحت اليوم أكبر
سجن في العالم (في غزة) وأكبر غرفة انتظار في العالم (الضفة
الغربية).
في الحلم: كنت وحدي، أقف عارياً حتى وسطي، في صحراء من الرمل
الحجري.
في نهاية الحلم حمل شخص ما، من على الأرض، حفنةً من التراب والغبار
بيديه ورماها على صدري. كان ذلك عملاً مدروساً وليس عملاً
عدوانياً. وأما التراب أو الحصى فقد تحول قبل أن يلمسني، إلى قطع
ثياب ممزقة، قطنية على الأغلب، سرعان ما غطت الجزء العلوي من جسدي.
بعد ذلك تغيرت هذه الخرق البالية وأصبحت كلمات وجملاً. لم أكتبها
أنا بل كتبها المكان.
تذكُّري لهذا الحلم، أعاد إلى ذاكرتي، ولمرات عديدة، كلمة جديدة:
"الأرض الممسوحة". مصطلح "الأرض الممسوحة" هو وصف لمكان أو لأمكنة
حيث كل شيء، سواء كان مادياً أو غير مادي، قد تم عزله ووضعه في
زاوية واختلاسه وطرحه أرضاً وقطع المياه عنه. كل شيء فيه ممسوح
تماماً ولم يتبقَ سوى سطح الأرض الملموسة.
هنالك تلة صغيرة إسمها "الربوة" تقع في نهاية شارع طوكيو على الطرف
الغربي لمدينة رام لله. قرب أعلى موقع على تلك الربوة هناك مرقد
الشاعر محمود درويش، وهو ليس مقبرة. ويطلق اسم "طوكيو" على الشارع
لأنه يؤدي إلى المركز الثقافي للمدينة في أسفل التلة والذي تم
بناؤه بواسطة منحة من اليابان.
في هذا المركز الثقافي قرأ درويش للمرة الأخيرة بعضاً من أشعاره،
بالرغم من أن أحداً لم يتوقع، آنذاك، أنها قد تكون القراءة
الأخيرة. ماذا تعني كلمة "الأخيرة" في لحظات اليأس؟
ذهبنا لزيارة المرقد. شاهدة القبر من الحجر. الأرض المحفورة قرب
الموقع ما زالت عارية، وقد ترك الزوار فيها حزماً صغيرة من القمح
الأخضر، كما أوصى في أحدى قصائده، إلى جانب شقائق النعمان وقصاصات
من ورق وصور.
أراد درويش أن يدفن في الجليل، هناك حيث ولد، وحيث ما زالت تعيش
والدته، ولكن إسرائيل رفضت ذلك الطلب.
في جنازة درويش تجمع عشرات الآلاف، هنا في الربوة. وأما والدته
البالغة 96 عاماً، فقالت "إنه ابنكم جميعاً".
في أي ميدان، تحديداً، نتحدث، عندما نتكلم عن أحباء ماتوا أو قتلوا
مؤخراً؟ كلماتنا تبدو لنا وكأن وقعها وتأثيرها هو في لحظة آنية ذات
حضور أكبر من اللحظات الاعتيادية الأخرى المعاشة. وربما تتشابه مع
لحظات أخرى مثل ممارسة الحب، أو مواجهة خطر داهم، أو اتخاذ قرار لا
تراجع عنه، أو أداء رقصة تانغو.
إن كلمات الرثاء لا تجد صدى لها في ميدان أو موقع الأبدية، ولكن قد
نجدها في قاعة صغيرة من صالات ذلك الميدان الواسع.
الآن، على هذه التلة الهادئة، حاولت تذكر صوت درويش. فقد كان له
صوت هادئ مثل من يربي النحل:
قد أضيف إلى الحكاية وصف
عكا/ أقدم المدن الجميلة
أجمل المدن القديمة/ علبة
حجرية يتحرك الأحياء والأموات
في صلصالها كخلية النحل السجين
ويضربون عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كلما
اشتد الحصار
عندما تذكرت صوته، شعرت بحاجتي للجلوس على الأرض الملموسة، فوق
العشب الأخضر، وهذا ما فعلت.
الربوة في اللغة العربية، تعني تلة مغطاة بالعشب الأخضر. لقد عادت
كلماته من حيث جاءت. ولا يوجد شيء أخر. وهذا الشيء هو ما يتشارك به
حوالي 4 ملايين فلسطيني.
وأما التلة الأخرى على بعد 500 متر فهي مرمى نفايات، يحلق فوقها
الغربان، وبعض الأطفال يعبثون في الجوار.
عندما جلست فوق العشب على حافة مرقده، حدث أمر غير متوقع. ولكي
أحدده فلا بد لي من وصف حدث آخر:
كان ذلك قبل بضعة أعوام. كان إبني "إيف" يقود سيارته ونحن في
طريقنا إلى"كلوسس" وهي مدينة صغيرة في جبال الألب الفرنسية. كان
الثلج ينهمر. والتلال والمراعي والأشجار مغطاة بالبياض. وبياض أول
الثلوج، عادةً، يسبب نوعاً من خلل في التوازن لدى الطيور، وبالتالي
فهي تعاني من صعوبة الإحساس وتحديد المسافات أو الاتجاهات. فجأة
اصطدم طائر بالحاجز الزجاجي للسيارة. رآه "إيف"، من خلال المرآة
الخلفية، يهوي إلى حافة الطريق، أوقف السيارة وعاد إلى الخلف. كان
طائراً صغيراً، أبو الحناء، ورغم جموده إلا أنه كان ما يزال حياً
وعيناه تومضان. التقطته من بين الثلوج، كان يبدو دافئاً بين يدي،
بل وبالغ الدفء، فالطيور لها حرارة دم أعلى من البشر، تابعنا
رحلتنا. كنت أتفقد حالة الطائر من وقت لأخر ولكنه مات بعد نصف
ساعة. حملته ووضعته على المقعد الخلفي للسيارة. ما أدهشني آنذاك هو
وزنه. كان يبدو أقل وزناً مما كان عندما التقطته من على الثلج.
نقلته من يد لأخرى للتأكد من وزنه. بدا الأمر كما لو أن طاقته وهو
حيّ وصراعه للبقاء على قيد الحياة قد أضافت وزناً إلى وزنه. الآن
وقد مات أصبح خفيفاً وكأنه دون وزن تقريباً.
بعد أن جلست فوق العشب عند تلة الربوة، حصل شيء مشابه. وفاة محمود
درويش جعلت وزنه الجسدي كالريشة ولكن ما تبقى هو كلماته وأشعاره.
مرّت على تلك الزيارة شهور مليئة بالتوجس والصمت. والآن فإن
المصائب تتدفق معاً إلى هذه "الدلتا" التي لا اسم لها ولن يُعطَ
لها إسم إلا من علماء الجغرافيا الذين سيأتون فيما بعد، بعد أمد
طويل. لا شيء يمكن فعله اليوم سوى محاولة السير فوق المياه المرة
لهذه الدلتا التي لا اسم لها.
غزة، أكبر سجن في العالم، تحولت اليوم إلى مسلخ. وكلمة قطاع (قطاع
غزة) أصبحت مبللة بالدم، تماماً كما حصل قبل 65 سنة لكلمة
"الغيتو".
قذائف تنهمر ليلاً ونهاراً، شظايا وقنابل فسفورية مشعة، وأسلحة
GBU39 المشعة، ومدافع وحمم يطلقها جيش "الدفاع" الإسرائيلي من الجو
والبحر والأرض ضد المدنيين، ضد 1.5 مليون مواطن. وأما عدد الإعاقات
والوفيات فهو في تزايد مع كل نشرة أخبار ومع كل تقرير من الصحافة
الدولية التي منعتها إسرائيل من دخول قطاع غزة. ولكن الأرقام
الهامة ذات المغزى تشير إلى أنه مقابل كل إصابة إسرائيلية واحدة
هناك مئة إصابة لدى الفلسطينيين. كما يبدو أن حياة إسرائيلي واحد
تساوي حياة مئة فلسطيني. إن مضمون هذه المعادلة هو ما يكرره
المتحدث الرسمي الإسرائيلي مرة تلو الأخرى من أجل تحويلها إلى واقع
مقبول واعتيادي.
سوف يتبع هذه المجزرة، طاعون أخر. فمعظم البيوت أصبحت دون ماء أو
كهرباء، والمستشفيات تعاني من نقص في الأطباء والأدوية ومولدات
الكهرباء. والمجزرة جاءت بعد أشهر طويلة من حصار شديد وإغلاق لكافة
المعابر.
يوماً بعد يوم تتزايد الأصوات المحتجة في العالم. ولكن الحكومات في
الدول الغنية وأجهزة الأعلام التابعة لها والتي تفاخر بامتلاك
الأسلحة النووية، تطمئن إسرائيل بأنها جميعاً ستلتزم الصمت وتغمض
أعينها عما ترتكبه قوات "دفاع" الأخيرة.
الوطن الباكي يدخل نومنا كما كتبت الشاعرة الكردية "بجان ماتور":
وطن يبكي، يدخل نومنا، ولا يرحل أبداً.
لا شيء سوى "الأرض الممسوحة".
قبل أربعة أشهر كنت في رام الله، في مرآب مهجور تحت الأرض حوّلته
مجموعة من التشكيليين الفلسطينيين إلى فضاء لإنتاج الفنون البصرية،
من بينهم نحاتة سورية إسمها رندة مداح. كنت أتأمل عملاً إنشائياً
لها أسمته "مسرح دمى". وهو عبارة عن جدارية عريضة من الحفر البارز،
طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، تنتصب مثل جدار. أمام الجدارية
على الأرض، ثلاث شخوص منحوتة بدقة. الجدارية-الريليف عبارة عن
تكوين بارز من الأكتاف والوجوه والأيدي المبنية على هيكل من
الأسلاك، بالبولياستر والألياف الزجاجية والطين. سطحها ملون بدرجات
الأخضر والأحمر والبنّيات الداكنة. عمق الريليف شبيه بنظيره في
أبواب "جِبيرتي" البرونزية والموجودة في بناء المعمودية في مدينة
فلورنسا، وكذلك الاختصارات وتحويرات المنظور معالجة تقريباً بحرفية
مضاهية.
(ما كنت لأخمن أن الفنانة شابة في السادسة والعشرين من العمر).
وأما الجدارية- الريليف فتبدو كـ"السياج" بما قد يشبه جمهوراً في
مسرح منظوراً إليه من على الخشبة.
على أرض خشبة المسرح في المقدمة، شخوص منحوتة بالحجم الطبيعي
لامرأتين ورجل واحد. وهي مصنوعة من نفس المواد ولكن بألوان أكثر
شحوباً.
يمكن للزائر لمس أحداها وأما الثانية فتقع على بعد مترين، والثالثة
على بعدٍ مضاعف. جميعهم يرتدون ملابس اعتيادية؛ تلك التي اختاروها
لذاك الصباح.
أجسادهم مربوطة إلى حبال تتدلى من ثلاث عصيٍّ أفقية، تتدلى، بدورها
من السقف. إنها دمى. وعصا كل منها هي أداة التحكم التي يمسك بها
محرِّكو الدمى الغائبون أو اللامرئيون.
على سطح الجدارية تشكيلات إنسانية متعددة، تنظر جميعها إلى ما تراه
أمام أعينها، وتلوّح بأيديها. تبدو تلك الأيدي كقطيع من حيوانات
داجنة، لا حول ولا قوة لها. تلوّح بأطرافها وتتلوّى لأنها عاجزة عن
الفعل. إنها "حفر بارز" وليست ثلاثية الأبعاد، لذا لا تستطيع
الولوج أو التدخّل في العالم الواقعي الصلب. إنها نظير الاستكان.
تتدلى الأجساد الصلبة الثلاث المربوطة بالحبال اللامرئية لمحركي
الدمى، كأنها تُقذَف نحو الأرض: الرأس للأسفل والأقدام في الهواء،
مرة بعد مرة حتى تنفصل رؤوسها. تتشنج الأيدي والجذوع والوجوه في
عذاباتها التي لا تنتهي. أنت ترى ذلك في حركة الأقدام مرة تلو
الأخرى.
كان بمقدوري السير بين وجوه المتفرجين العاجزين في الجدارية
والضحايا المرتمية على الأرض، ولكني لم أفعل. هناك قوة ما في هذا
العمل الفني لم أرها فيما عداه. إنها تطالب بأحقيتها في الأرض التي
تقف عليها. وهي قد جعلت من ساحة القتل ما بين المتفرجين المذعورين
والضحايا المعذبين ساحة مقدسة. لقد حوّل هذا العمل الفني أرض
المرآب، بشكل ما، إلى "الأرض الممسوحة".
هذا العمل تنبأ بما يجري اليوم في قطاع غزة.
قبر محمود درويش على تلة الربوة تم تسويره وبناء هرم زجاجي فوقه،
بناء على تعليمات السلطة الفلسطينية، ولم يعد من الممكن الجلوس
بالقرب منه. لكن كلمات درويش تبقى مسموعة في آذاننا ويمكن لنا أن
نعيدها مرة تلو الأخرى دون توقف:
"وأنا أريد، أريد أن أحيا
فلي عمل على جغرافيا البركان.
من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما
واليباب هو اليباب. كأنني أحيا
هنا أبدا، وبي شبق إلى ما لست
أعرف. قد يكون الآن أبعد.
قد يكون الأمس أقرب. والغد الماضي.
ولكني أشدٌ الآن من يدِهِ ليعبر
قربي التاريخ، لا الزٌمن المدوٌر،
مثل فوضي الماعز الجبليٌِ. هل
أنجو غدا من سرعة الوقت الإلكترونيٌ،
أم أنجو غدا من بطْء قافلتي
على الصحراء؟ لي عمل لآخرتي
كأني لن أعيش غدا. ولي عمل ليومي
حاضري أبدا. لذا أصغي، علي مهلي
علي مهل، لصوت النمل في قلبي...
************************
جون برغر هو
كاتب، روائي، مصوِّر، سينمائي، مسرحي وناقد. نالت روايته "ج"
جائزة "بوكر" لعام 1972، وحاز على جائزة "جيمس تيت". كتابه الأخير
"من الألف إلى الياء" تصدّر منشورات "بوكر" للعام 2008. كلا
الاقتباسين في النص أعلاه مأخوذان من قصيدة "الجدارية" للشاعر
محمود درويش، ترجمة ريما حمامي وجون برغر.
* نُشر هذا المقال في
النسخة الورقية للـ"The Irish Times"، بتاريخ:
10.01.2009، بعنوان: A place weeping