وجوه «مروان قصاب باشي» كانت هناك «1»
قاسم حداد
احتفل به العرب لمناسبة بلوغه السبعين، قضى خمسين منها عند الغرب،
في ألمانيا.
احتفلوا به بعد أن أنجز تجربته الفنية بحريّة حلم بها في بلاده بما
يكفي، وتحقق في المشهد التشكيلي العالمي بهدوء الناسك وزهده.
لماذا يحتفل العرب بمبدعيهم بعد الموت أو قبله بقليل؟ كم يعبّرون
عن فرح الخلاص منهم؟
جاءني صوته عبر الهاتف منسرباً مثل لون أزرق مشحون بشجن نادر.
سبقني في الاتصال مثل طفل يرهقه التأجيل والانتظار.
جاء في الوقت المحدّد، وأخذني من مكان إقامتي بسيارته ذات اللون
النبيذي الرائق.
دقائق الارتباك المتوقعة لم تصمد في حضرة هذا الطفل الملتحي بفضّته
العتيقة.
حين يتحدّث بصوته الناعم، عليكَ أن تبذل بعض الجهد لكي تلتقط
كلماته. جلست إلى جانبه فراح يتحدّث كمن يواصل كلاماً انقطع قبل
ساعة. عثرنا على مداخل كثيرة للحديث. تهيبت أن أساله عن غربته،
لكنه سمعني. فقال: (نشرب قهوة في البيت، ثم نخرج إلى العشاء).
طفق في العزف مفتتحاً: (هذه المدينة..)،
وانخرطتُ معه في سيرة الخمسين عاماً في برلين، يتكلّم عن المدينة
كمن يتحدّث معها، أو ربما يتحدّث مع نفسه عنها.
ألتقيه للمرة الأولى، لمحتي الأولى لوجه (مروان باشي) اختصرت مسافة
كانت تحجبني عن الوجوه التي لا تحصى في لوحاته. وجوه مفتوحة للبصر
والبصيرة، تستدرجك لكي تتوغل في ذاكرة الرأس كلما عبرت طبقة لونية
لكي تتفجّر في وجهك أعماق الوجه في غبار وشظايا.
غير أن (مروان) يمعن في التقدّم نحوك بوجوه جديدة، تسبق وجهه
الطفولي الذي يشبه حديقة مقصوفة تواً بتسعة كيلو غرام ألوان.
وجه (مروان) لا يختلف كثيراً عن وجوه لوحاته إلا في الدرجة. إنها
من النوع ذاته، من التشظّي العميق ذاته، وأيضاً من البحث الهائم
ذاته والمولع بعدم الوصول. وحين وقفت أشاهد لوحاته واحدة بعد
الأخرى في مرسمه، لم يكن ينقصني (للتأكّد من فكرة البحث عن اللاشيء
التي راودتني في طريقنا إلى بيته) إلا أن يطلعني على واحدة من أجمل
تجاربه حميمية وجَلَداً في الرسم. فقد راح يمرّر أمامي كدسة كثيفة
من الصور الفوتوغرافية لعمل فني واحد ثابر في العمل عليه في أكثر
من خمس وسبعين حالة، وتعرّض العمل لعدد كبير من التحوّلات شكلاً
ورؤية ووجوهاً، بدرجة بالغة الذهول، واستغرق من الوقت ما يكفي
لخمسة معارض تقريباً، حسب تقديري.
هذا الولع بالبحث الفني يلقي ضوءاً مهما على تجربة مروان، ويتيح
لنا فسحة نوعية لصياغة تعامل وقراءة خاصة لما ينتجه.
عند (مروان باشي)، الفنان يبحث بالدرجة الأولى، لكن مثل طفل، ويبقى
على الآخرين أن يجدوا ما يحلمون به.
في مرسمه الزجاجي منحني نعمة الإطلاع على تجارب وأحجام ورؤى بالغة
التنوع والغنى، حتى أنني رأيت الفأل الحسن أن يبدأ يومي الأول في
برلين بتجربة تشكيلية من هذا النوع، ليس ولعاً بالرسم فقط، ولكن
استجابة لنزعة تلوين العالم، كلما فشلنا في تغييره.
وجوهه لا تحصى، ولا تكفّ عن إطلاق شهوة التأمل.
لم يكن يرسم وجوهه، كانت تقوده في نوع من الرحلة المرآوية عميقة
التحديق.الألوان عند مروان، هي أداته المادية وغايته الصوفية في
آن.
لا يمكنك تفادي وجوهٍ قادرةٍ على التحديق بك إلى هذا العمق وبهذه
الكثافة. وليس لك أن تتفادى ذلك، فكل اتصال بوجه جديد امتزاج
بتجربة غريبة، وفي الغرابة جمال.
لرفقة (مروان باشي) في برلين متعة خاصة، وسبيل معرفة فذّ. وأن يأتي
ليأخذك إلى عالمه فتلك لقية حميمة.
سيارته النبيذية تنساب بسلاسة مَنْ ينال كأسه الثالثة في مساء
منتش. قيادة مروان تختلف كثيراً عن سياقة (توماس)، لا أعرف لماذا
قفزت هذه المقارنة في ذهني وأنا أكتشف كم كنت مسترخياً في مقعدي
بجانب مروان دون أن أحمل عبء السياقة معه، حتى لم أنتبه (تقنياً)
أنه يقود السيارة أصلاً. كان يجلس إلى جواري فحسب، تاركاً السيارة
تذهب بنا، في شوارع عرفها (مروان باشي) وراح يتحدّث عنها بلطف
شديد.
خمسون سنة، ليست مزحة في حياتنا المشحونة بالعمل والمكتشفات
والمرارة، لكن أن تكون هذه الخمسون لعربي في برلين.
قلت له: لعلكَ شاركتَ في تأسيس التاريخ الحديث للمدينة، وربما
أسهمتَ في رسم شوارعها ورويت أشجارها بسهر آلاف الليالي الخضراء.
عشتَ في خضم التحوّلات والمنعطفات العاصفة التي مرّت بها هذه
المدينة التي كانت واحدة من أهم المدن وأكثرها حيوية وفعالية طوال
ثلثَي القرن الماضي وكل ما قبله، ولعلها في الحرب الكونية الثانية
كانت وردة الرماد لتلك الحرب.
بين مكان إقامتي وداره مسافة ينبغي أن لا تزيد عن عشرين دقيقة،
لكنني خلتها الزمن الكثيف كلّه الذي امتدّ خمسين عاماً. كان مروان
متدفقاً في الحديث عن التجربة التي نقلته من أحياء دمشق إلى مدينة
برلين في رحلة بحث مريرة وخيارات في الدرس والموهبة والعمل بصورة
أغنت حياته وجعلته يعرف أية وجوه ترصف له طريق العمر، لكي يسكن
أخيراً في شارع باسم الشاعر الأشهر (هيرمان هيسه). كأنّ المصادفات
المبدعة هي التي هيّأت ذلك لـ(مروان باشي)، وهو الذي تولّع إضافة
إلى الرسم، بالأدب والكتابة، وحلم دوماً بوضع الإبداع في سياقه
الحضاري. يخبرني، ونحن ندخل في غابة كثيفة، رحبة الطريق، حديثة
التخطيط وبالغة الهدوء، ذاهبَين إلى بيته، المختبئ في حضن أحد
الغابات.
منذ سنتين اشترى مروان هذه الدار واشتغل على ترميمها بحيث خصّص
منها مكاناً للسكن وآخر للعمل: رسماً وكتابة وتأملاً.
نُشر في جريدة "الوقت" البحرينية في: 01.09.2007
===============================
رسام يقرأ أحوال الطقس في برلين «2»
قاسم حداد
حين عبرنا باب الدار، دلفنا مباشرة من باب مقابل فوجدت نفسي في
حديقة متوسطة على الجانب الداخلي من البيت. وقبل أن أجلس على مقعد
خشبي بجوار طاولة من ذات الخشب، بادرني سائلاً: (هل تشعر بهذا الجو
المكتوم، المشحون بسخونة ما؟ هذا يحدث دائماً قبل أي انفجار عاصف
في الطقس). لم ينتظر تعليقي. أشار إلى أنها حالة تنذر بالرعد
والمطر.
لقد كان يقرأ شيئاً يعرفه. ربما شيئاً كتبه أيضاً. لا أعرف.
أعدّ شاي (الدارجيلينك) الطيّب الرائحة وراح يحكي عن تجربته
الأثيرة مع عبد الرحمن منيف. كنت أريد أن أسمع منه عن هذه العلاقة
فعلاً، بعد أن قرأت ما كتبه عنه منيف تقديماً لواحدة من أجمل ‘’كتالوجات’’
أعماله.
كان منيف قرينه في التجربة السياسية والغربة. غاب زمناً في السياسة
والنفط، ثم هرب عائداً إلى الأدب. قال مروان: كأني استعدت حقي فيه
عندما بدأ يكتب الرواية. كان رفيقي الإبداعي الخاص. وتحدّث مروان
عن فداحة ما يخسره كل يوم وهو يستوعب (بتمنّع روحي عميق) ذلك الفقد.
تحدّث عن مراسلاته الطويلة الغنية بالحوارات الأدبية والفنية التي
شكّلت له مصدراً روحياً لمكتشفات حياته. تحدّث عن آخر رسالة
استلمها من منيف قبل وفاته بثلاثة أيام.
يبدو أن تلك العلاقة والمراسلات الحوارية مع منيف هي من بين ما صقل
نزوع مروان الفطري للتعبير عن أفكاره كتابة، فمما أطلعني عليه
وقرأت جانباً منه، من مخطوطات ومذكرات، يشي بطاقة إضافية يتميز بها
هذا الفنان قلما نصادفها عند تشكيليين عرب في زمننا. في ما قرأت،
ثمة حالات تأملية عميقة في المسألة الفنية، ومحاورة ممتازة للذات
إزاء اللوحة.
وظني أن تجربة (مروان باشي) في برلين ساهمت نوعياً في تأسيس البعد
العقلاني في تجربته الفنية. فقد كان طوال سنواته في ألمانيا متصلاً
بأكثر التجارب تنوعاً، ليس في حقل الفنون فحسب، إذ شارك في العديد
من الورش والمشاريع الثقافية ذات البعد المعرفي، واشترك مع فنانين
وناشطين ثقافيين مختلفين، ربما كانوا يرون في تجربته الدافع النوعي
لما يبحثون عنه في تجربتهم الغربية. خصوصاً أن تجربة مروان في رسمه
هذه الوجوه الكثيرة تقترح، ربما من حيث لا يقصد، رؤية جديدة لمفهوم
(البورتريه) في الرسم. وعندما تذكّرت إحدى بورتريهات فان غوخ للحظة،
وأنا أشاهد التعدّد الكثير لوجوهه، شعرت بأن ما شدّني في أعمال
الرسام الهولندي منذ سنوات، هو ذاته الذي شدّني إلى وجوه مروان.
لقد كان فان غوخ يبحث، مثلما يفعل الآن مروان، لكن على طريقته، وهو
يقترح بَلْوَرَة باهرة لما يمكن أن يكون قد توقّف أو كفّ عن النمو
في بورتريه فان غوخ العابر بألوانه الخشنة والكثيفة.
عندما كان يعرّفني على وجوه لوحاته، أشرتُ إلى ذلك الحضور الطيفي
المتوالد لملامح عبد الرحمن منيف في أكثر من لوحة في السنوات
الأخيرة، وقبل أن يجلب نفساً عميقاً في شكل نفثة قلب، استدركت
مؤكداً على خطورة تفسير اللوحة بالواقع، غير أنني أردت فقط أن أسبر
هذا التقاطع العميق بينه وبين رفيقه النضالي والإبداعي. وفي
تجربتنا العربية يندر أن نصادف علاقة عميقة بين رسام تشكيلي وأديب
على هذه الدرجة من التبلور والحوار، بعكس التجربة الأوروبية، حيث
نعرف العديد من التجارب والصداقات المهمة والمنتجة بين الرسامين
والكتاب بشتى تجلياتهم، مما ترك لنا تراثاً جمالياً لا يزال يؤثّر
في اكتشاف المفاهيم الفنية وإعادة صياغتها.
فيما كنا نتأمل فكرة التفسير والتأويل للعمل الفني اتفقنا على أن
كلمة (فهم) ربما لم تعد تناسب أو تليق عندما يتعلق الأمر بالفن.
وإذا لم تكن كلمة (إحساس) تناسبنا فعلينا أن نبحث عن تعبير غير
كلمة (الفهم) الذهنية التي تنقض العمل الإبداعي.
فالقلب لا يفهم، لأن الإبداع ليس عقلاً.
قلما نصادف فناناً متأملاً بهذا الشكل، حتى عندما نتذكّر شاكر آل
الشيخ كمثال نادر، سوف يتأكّد تقديرنا لما نفتقده من تأمل روحي في
التشكيل العربي.
ظني أنه حتى عندما (يفكّر) الفنان العربي فسوف يفسد عمله الإبداعي
لفرط ذهنيته ومجافاته للعمق، فالتأمل حالة أكثر عمقاً وفعالية من
مجرّد التفكير، بل إنها الرواق الروحي لنشاط مخيّلة المبدع.
هل ثمة ما يتوقف هنا على مصادفة أن يعيش الفنان العربي في الغرب؟
لا أريد أن أرى في تجربة العيش في الغرب حكم قيمة ناجز في كل
الأحوال. لكنني لا أريد تفادي هذا السؤال لئلا أخسر فرصة التعرّف
الصريح على تجربة (مروان باشي) وغيره. بالطبع لابدّ من توافر طاقة
الذات اليقظة لتأمل ما يحدث، فربما كانت الحياة في الغرب، بسبب
كونها تجربة مكتسبة ثقافياً وحضارياً، تفرض صقلاً لحواسّ الفنان
وتشحذ أدوات ومصادر انبثاقه الروحي فيما يصوغ أعماله الفنية.
كان ذلك كله يدور داخل المرسم الرحب، لكن أثناء ذلك، في الخارج،
كان الطقس يتحوّل بالسرعة التي وصفها البعض بأنها الطقس البرليني،
فما إن خرجنا من المرسم مغادرَين الدار حتى واجهنا الطقس العاصف
الذي تفجّر رعداً وبرقاً ومطراً بعد احتباس مكتوم، تماماً كما
توقّع أو أجزم مروان قبل قليل. صعدنا السيارة فبدأت الأشجار تنثر
شلاّل أوراقها في الفضاء على مستوى سطح سيارتنا، والمطر يغسل إسفلت
الطريق ويبلغنا رسائل غير مقروءة. كيف تسنى لهدوء، يكاد يكون صمتاً،
أن ينقلب في دقائق إلى هذا الصخب العجيب. قلت لمروان:
أصبحتَ تحسن قراءة أحوال الطبيعة لفرط حوارك اليومي معها.
قال بصوت طفولي ناعم، لا يتناسب مع الجوّ: لا تهتم سيهدأ هذا كله
بعد قليل.
كمن يريد أن يثني على إشارتي بمعرفته أحوال الطقس.
ولم نكد نقطع الغابة في طريقنا إلى شوارع وسط المدينة، لتناول
العشاء الأول، حتى هدأ الجو فجأة وشعرت أننا نخرج من خيمة كبيرة
فحسب. كانت العاصفة مثل كائن هائج يعبر الشارع.
العشاء الأول، الذي دعاني إليه (مروان باشي)، كان في المطعم الصغير
الذي يملكه شاب مصري جلس معنا دقائق يساعد مروان على إقناعي بوجبة
السمك الذي يشرف على شرائه شخصياً، غير أنني كالعادة لا أقدم على
مجازفة تناول سمك لا أشتريه بنفسي من السوق ويكون حيّاً أو من صيد
اليوم نفسه على أقلّ تقدير، الذي سيأخذ فيه طريقه إلى الطبخ ومن ثم
المائدة.
فوعدني بطبق شهيّ من قطعة اللحم المشوية (الستايك)، وكان شهياً
بالفعل، وكذلك كان النبيذ.
نُشر في جريدة "الوقت" البحرينية في: 15.09.2007