لو أدركت مراميها الخطى
نضال الشوفي - 21\02\2009
فاضت عتمة الليل على نهار خريفي غائم، فنهضت متثاقلاً. مسالك وجهي قاسية، صعبة
الولوج، وشعري عشب رطب موطوء. ذاك ما بثتني إياه أطراف أصابعي، ومرآة بيتي البارد،
قبل أن ألوب في حجراته مضطرباً، كما بالأمس.
لذاكرتي هذا الصباح، روائح كثيرة، تغلب عليها رائحة فنجان القهوة الأول، ورائحة
الموت المؤدلج بالخطابة، لعلهما النهاية والبداية لجميع أفكاري الساخطة من واقع
الأمور. أتحايل على خدري، وأحرك قدميّ في أعقاب ركوة القهوة، وأنفض رأسي المختض
بزحام كوابيس الليل، كي استعيد تفاصيلها المزعجة، علّي أستعيد الشعور بالأمان. أرى
انفجارات تحرث المباني والساحات بتراتب مدروس، ورصاص يثقب قوس السماء، ويمزق اللحم
الطري لطفلة دفعها الفضول، وربما الإحساس الخفي بدنو الأجل، إلى النافذة، أرى وجوها
حائلة اللون، تنشج الدمع أخاديد تصب على الأعناق، واسمع أحاديث كثيرة تردد كلمة
شهيد مرة تلو مرة تلو مره... أنفض رأسي المختض بالكوابيس من جديد، فأكتشف أن للخوف
وجها آخر، رحيم بعض الشيء، وعادل، ومساير. تلك عدالة الخوف في الأحلام، كلما اشتدت
وطأته، أوعز باليقظة، وأزاح يديه القابضتين على عنق النائم. تسللت المشاهد من
التلفاز، والمواقع الإلكترونية في عتمة الليل إلى وسادتي، ثم إلى رأسي... شهيد
يَقتل شهيداً ثم يُقتل بيد شهيد، وأنا حائر، هل أصدق جلافة الشهداء؟، هل من شهيد
يروج الأكاذيب؟ يقتل بضراوة الوحوش، وبرودة الصقيع، وبيتي الموحش هذا، ثم يسلم
النفس معلناً الرحيل إلى جنان هادئة في مكان ما.
أرشف القهوة من فنجاني الأول، وأقلب المشاهد في رأسي من جديد، أرى أطفالاً يصنعون
على عجل، بنادق من خشب، ومدافع خفيفة من أغصان الشجر... لعلهم يحلمون أن يصبحوا ذات
يوم شهداء؟....
أشعر بالضيق واليأس وقلة الحيلة، فألوذ هذه المرة بالكتابة، علّي أفك نفسي من وطأة
الخوف، وأستعيد شيئاً من الشعور بالأمان:
أبحث في بيروت
عن حانة هادئة
لا تجير الموت من الرمضاء
تحت ردمها الظليل
أبحث في بغداد
عن نانا، وإنانا، وشماش،
وإيا، وديموزي، وإنليل
عن رب أسميه المستحيل
كي يمحل الأرض من نفطها
والبحار من رياحها
والمدائن من تاريخها الطويل
ويعيد للإنسان فطرته
وللسماء غزارتها
وللسنابل لونها، ومذاقها الأصيل
أبحث في متاحف الشرق، عن رأس سرجون الكبير
أفصّله تمائم
نسخ عن طغاة الأرض
جيلا بعد جيل
أقايضها بدمي
الذي لا زال سبيلا
لكل من عبر السبيل
الورق أمامي يمتلئ بقدر ما تفرغ نفسي من الكروب، إلى الحين أنجزت الشمس من زحفها
الوئيد عبر الفضاء المكور نصف المسافة، وأنا أثمل وأنتشي بالكلمات بعد أن أقرأها من
جديد، لكني أظل متوازنا في حراكي الدؤوب بين الحمّام وخزانة الملابس ويزداد سعيي
تسارعا إلى أن تستوقفه فجأة غرابة شكلي المتضخم في المرآة، أقف أطول من المعتاد
أمام صورة رأسي الكبير المكتنز من المعرفة الكثير مما تحدثني به نفسي المزهوة بعد
هذا الإنجاز الأدبي الذي سأهبط به على أقراني هبوط طير صّياد فوق عشه المكتظ
بالمناقير، أترك الظاهرة الغريبة إلى حين رجعة منشغلا باللمسات الأخيرة على شعري
وملابسي، ثم أنطلق إلى الطاولة فأخطف الأوراق المرقوشة بالأزرق لألفها على عجل
متشبها بشعراء وولاة قضوا منذ تاريخ بعيد، وأتجه من فوري إلى المقهى.
في الطريق لا يرعى انتباهي أحد ممن تقاطع وجهة سيرهم سيري، لا يجاري انطلاقي سوى
اللهفة للوصول وشكلي المتعملق الذي لاحقني وراح يقفز بالقرب مني بين واجهات المحال
الزجاجية.
قلت في سري وكأني أخاطب شيطانا صغيرا نما بسرعة البرق بعد أن تلبسني:
لو أني خلقت بهذه الهيئة التي أراها، لكنت حديث الناس منذ زمن.
افتر فمي عن ابتسامة ساخرة لا تقيم شأنا للناس من حولي، وشعرت أني دانيت مجلس
الرفاق، فهدأت من إيقاع سيري قليلا، وتفحصت هندامي ولفافة الورق الدافئ في يدي قبل
أن ينفتح الشارع المستقيم الذي سرته على ساحة واسعة مسورة بدكاكين وجامع ومقهى قديم
تبدلت عليه الحقب والأسماء، في مركز الساحة نافورة يهبط ماؤها من علوه على بركة
مضلعة الأطراف يقف على حافتها شخص مضطرب مبلل من شعره حتى الحذاء، كان يخطب بالناس
فلا تجمعهم عباراته المبعثرة، ولا يعيرون وجوده اكتراث يذكر.
صدمني المنظر ولوث عقلي بمر الخيارات، أأقفل راجعا من حيث جئت، أم أجر الرجل إلى
خارج الساحة على مرأى من الناس، أم أتشبث برباطة جأشي؟ درت على نفسي وأنا أتمتم
بلهجتي الراقية ما يتداعى على لساني من الوصف: أبله، ومجنون، وشلو كائن عاقل.
درت على نفسي من جديد، ثم شيعت الرجل بنظرة أخيرة ودلفت إلى المقهى، كان المكان
فارغا إلا من بعض النزلاء الرّواد صبحا ومساء، اخترت لنفسي مقعدا يطل على الساحة،
فقفز طيفي، الباهت هذه المرة، واستقر قبالتي على الواجهة الزجاجية من الداخل، في
عمق الصورة لا زال الرجل المعتوه يخطب بالناس محولا انتظاري للرفاق انتظارا لرحيله
عن المكان، استحالت بهجة يومي إلى قلق وارتباك، الوقت يناكدني ببطء المرور، ولم أزل
وحدي، ولم يزل ذلك المعتوه ينتصب كتمثال على حافة البركة ويرفع كلتا يديه فجأة إلى
السماء، ويطلق صوته الأجش بنبرة أقوى: أيها الناس..
أيها الناس
لو أدركت مراميها الخطى
لما استجار الموت من الرمضاء
تحت ردم بيروت الظليل
لما تقاطرت على بغداد
أوثان نانا وإينانا وشماش
وإيا وديموزي وإنليل
أيها الناس...
ودوى انفجار.. دوى على باب الجامع انفجار هائل، وعصف الدخان والغبار بالحي كله،
وتناثر البشر أشلاء غرقى بالدماء، وتكسرت واجهات الزجاج والمرايا، وسقطت شلو كائن
ضئيل يستجير من الرمضاء تحت ردم المقهى، وظل عمق الصورة مغمورا بدخان كثيف لا بد أن
تهب ريح وتزيحه إلى وجهة أخرى.