البحث عن الفطر - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


البحث عن الفطر
داوود الجولاني - 09\03\2009
الجفاف يختبئ فوق غصون الشجر، ينخرها، يتربص بالجذور لقضمها مثل خلد، والمحل قادم لا محالة. هكذا تيقَّن الناس وفسروا ذلك لابتعادِ الناس عن وصايا الله، ولأن الفتيات بتنَّ مثل الرجال يلبسنَّ ما طاب لهن من ثياب تكشف عن مفاتن أجسادهن. ورغم أنَّ العلم في أفواه المتعلمين فلم ينْبرِ أحد منهم لشرح سبب احتباس المطر عن الأرض في بلدنا.
لكن امرأة توقف حيضها، تصر على أن السماء سوف تمطر، فصلَّت في يوم حار بأن رقصت وهي تحرك قدميها على إيقاع انعكاس صورتها في مرآة علقتها فوق حائط في غرفة نومها، ورفعت ذراعيها بابتهال للشمس المطلّة من النافذة وقالت لها: "انصرفي ودعي السحاب يزور غرفتي".
فجاء شتاء سخي غزير شديد الغضب يمزج الماء بالثلج، حتى أنه غمر بساتين التفاح وجرف ألغاما كثيرة كان قد زرعها محاربون، منهم من بقي ومنهم من رحل، فتدحرجت من أعالي التلال مع الطين وملأت السهول. فالتجأ الناس إلى مواقدهم مذعورين، يسترسلون في الدعاء بعد أن اطمأنوا أن الله مازال يتذكرهم، وأسدلوا ستائر النوافذ دون أن يلحظوا كيف أن قطرات الماء في الخارج تدق مثل زائر خفيف الظل ينتظر أن تفتح له الأبواب.
المرأة المنتعش جسدها بالبرد، أزاحت الستائر عن الشبابيك، فغمر السحاب غرفتها، فوقفت في الشرفة المطلة على السهول وتلت صلاتها: "أيها الماء القادم إلينا اروِ أرضنا وأجعل الفطر ينمو من التراب كما في الأزمنة القديمة، وهدهد برقّة وجه عشب البرية النامي، وخفّف البرد عن أجنحة الطير الذي يحبك.."
بقيت هكذا تطل من الشرفة حتى عاد زوجها من سهرته، فاندست في فراش بارد وهي تقول له: "أشعر أن الصباح سيستضيف الشمس"، ثم أكملت: "في الغد سنذهب لقطف أعشاب الشتاء".
فما كان منه سوى أن أدار ظهره لها بعد أن قال: "ألم تسمعي كيف أن المطر جرف الألغام إلى السهول، فهل تريدين الموت مثل أي عنزة أو راع؟ هما محكومان بالعيش في السهول وموتهم بات طبيعيا"، ثم شد اللحاف حول جسده وغطَّ في نوم لا أحلام تسير في شوارعه.
الصبح لم يكذبّها، فالشمس أطلت بدفء شجعها على إقناعه في المشي إلى السهل، وذلك بعد أن أعدت حقيبة صغيرة فيها إبريق وقنينة ماء وخبز ولبنة ماعز.
حمل الحقيبة على ظهره بعد أن قال لها: "سأجلس تحت أول شجرة أصادفها ولن أغامر بحياتي بالبحث عن أي نبات في البرية. ثم أن السماء ستعاود الهطول بعد ساعات فلن نتأخر كثيرا".
لم تردُّ وانطلقت أمامه.. دخلا إلى سهل نبتت فيه أشجار السرو والسنديان، وكانت أشد منه همة فأخذت تقطف من عشب الأرض رشاده وجرجيره وقرتّه.. وعبثا بحثت عن الفطر فلم تجده...
لم يعرها انتباها وتركها تمضي في السهل. بينما جلس تحت شجرة يلتمس الدفء النازل عبر غصونها، يحضر أمام جذعها موقداً صغيراً من حجرين، وضع فوقهما إبريقاً ملأه بماء، وهو يجول بعينيه فيما امتد من حوله من سهل نضر شديد الاخضرار. رأى أبقارا وماعزا تأكل العشب، لكنه لم يلمح راعي السهول ولا سمع نايه، إلا أن بضع قطرات من ماء سقطت من أوراق الشجرة فوق رأسه جعلته ينتبه أن زوجته غابت عن ناظره، فراح يحدق حتى لاح له طيف أنثى مطرزة بقماش أزرق، جمّلته خيوط بيضاء متقطعة، وكأنها ارتدت السماء ثوبا وتعطرت بالسحاب، تتنقل بين حجارة وحجارة وأقدامها تكاد تلامس العشب النضر الطري. ولما كانت تنحني لقطف نبات الرشاد بأصابع يديها كانت طيور الحجل تقفز بين كفيها.
استمر بمراقبتها، فشعر أن نسيما مر أمام ناظره، فعبث بالقماش الأزرق وكشف عن جدولين من ماء صاف، فأدرك أن الخيال الذي يتراقص أمامه ليس إلا زوجته. ففرك عينيه من نوم طويل واخذ يخطو وراءها وكأنه يكتشف قارة كانت مخبأة في قلبه لم تطأها قدم إنسان. فنسي الخوف والألغام.. وتجرأ واقترب أكثر.. ناداها بأن لمس شعرها: "تعالي قد أعددت لك فنجاناً من الشاي".
فأجابت: "سألحق بك بعد قليل.. فاطبخ الشاي فوق نار هادئة، فإن الطير الأزرق الذي ينط من زهرة لزهرة بحاجة لجرعة ماء من يدي".
قالت وهي تشرب الشاي الساخن وتأكل خبزا موشحا بلبنة الماعز وملفوفا بالرشاد: "الفطر طال غيابه ولم أجده، والطير الأزرق حطَّ بين يديَّ، شرب الماء وطار، والبرد عاد يتغلغل في مسامات جسدي فلماذا لا تساعدني؟".
أدرك أن طول السهر أمام النافذة المفتوحة على المطر، وأن ركضها في السهل قد أعياها، فحن لها وبدأ يفرك رقبتها، ثم خديها، بكفيه اللذين أبعدهما للتو عن نار الموقدة، فشعرت بنار خفيفة تجتاح بدنها، فالتصقت به ثم التصق بها أكثر، وخاصة بعد هبوط ضباب لف شجيرات السهل.
قال: "السماء ستمطر من جديد، فدعينا نلملم أغراضنا ونذهب إلى منزلنا".
ردت قائلةً: "انتظر قليلا لنسمع صوت الرعد ونشاهد ضوء البرق"، فسمعا دويا هائلا وشاهدا التراب ينشق ويعلو عن أشلاء لبقر وماعز، وشاهدا كيف الراعي يركض هاربا بقدم واحده وهو يرمي نايه.
ازداد خوفهما فلفت ذراعيها حول عنقه، فلف ذراعيه حول ظهرها، حتى غابا في ضباب ستار، فخرجت السماء عليهما بهطل صاحَبهُ برق ورعد، حتى أن صرختين انبعثتا منهما معا، فشاهدا كيف التراب ينشق وينبت الفطر...