هكذا أتشبه بالشجر
نضال الشوفي - 23\05\2009
لا أعرف شيئا عن " ماكس أوب " ، أحيا كان أم ميتا، أكاتبا أم شاعرا أم شيئا غير
ذلك، أكهلا عرافا يتأمل من شرفة الثمانين تلالا قريبة مفروشة بالغاب، أم يافعا
يلاحق الكؤوس بين حانة وأخرى، وعندما ينتشي بالخمر والوجوه يروق له أن يكنّي النساء
بأسماء فاكهة غير مألوفة .
لا أعرف شيئا عن الرجل سوى عبارة قصيرة لا اذكر من أين سقطت على سمعي واستوطنت طرف
لساني، فاستأنستها وغسلت كلماتها بلحن جنائزي رتيب، ودندنتها كلما كنت وحيدا، وما
أكثر ما أكون ...
دندنتها كلما شج الهواء عروق دالية معرشة على شباك غرفتي فينقشع ذاك السياج الشائك
وهو يحجز خلفه الأشجار والعشب البري، وآثار أناس ازدردت ألغام الحقل أطرافهم، ونثرت
بقايا العظام هنا وهناك.
ودندنتها ممزوجة بلهاثي وأنا أقتلع قدمان ثقيلتان تغرقان وسط التراب المحروث، كلما
سرت بين أشجار يانعة تنزاح خضرتها عن هاوية تنتهي بالحقل المدجج ذاته:
" الإنسان غلطة، والعالم خلق للأشجار ... "
" العالم خلق للأشجار ... "
في بلدتي الشرق بحالة انفصام منذ عقود، لا يعدو كونه شروقا أو غروبا شمالا أو
جنوبا، الشرق سياج وحقل ألغام يحجز أمداء تبثني نبض رجل أورثني قسمات وجهه، وسواد
شعره ،واعتدال قوامه ثم رحل.
كانت الحرب موعده، فالتقط رشاشه وودع أمي والتحق بكتيبة ظلت ترابط عند وهدة قريبة
حتى انكشفت للطائرات. فتقهقرت بعد نفاد الذخيرة وازدحام الأجساد في الغمر القاني.
أبي ذو الشعر الأسود والقامة المعتدلة، استبسل بلا أمل هناك على مشارف قريته،
وانسحب ذليلا يلقي على كتفيه سلاحا فارغا ينفث الدخان، وشابا يافعا مقطع الأطراف.
تقول أمي بنبرة منكسرة: كانت الطيور المذعورة والشمس والطائرات فوق الرؤوس، وأنتما
تتقلبان في بطني فلا أقوى على العدو كما يفعل الناس ...
فيتبرم أخي التوأم ويصيح: والله قد صدعت رؤوسنا بهذه الحكاية.
تصمت أمي، وأغمغم بدوري مشفقا: ليتك يا أمي خلقتي شجرة.
يفرقنا موعد النوم كل إلى فراشه، فأعلّق نظري في عتمة السقف، وأفرد أجزاء الحكاية
في عقلي متمما فصلها الأخير على هواي، علّي أدرأ غيضي من سلوك أخي الغارق بالنوم في
الزاوية المقابلة.
أقول في سري: سامحه الله، متى يكف عن التذمر، وينقطع عن رفاق السوء؟ متى يقطر معي
عرقا في الأرض التي من دونها لا حيلة لنا ولا معيل؟ يطول تحديقي في اللاشيء وأنا
أوزع اللوم بين أخي التوأم وأبي الغائب من قبل أن نولد، فيمتح الليل حتى يهدني
الإرهاق وأغفو
في الصباح، أنهض بمفردي متثاقلا مغمض العينين تقريبا، أستدّل بصوت أمي يكرر النداء
ريثما تلسع برودة الماء جلدة وجهي. أضع رداء العمل على جسدي، وألتقط زادا أعدته أمي
على مهل لشخصين بالغين أو أكثر، أتركها لعناء أليف لا طائل منه مع أخي، وأتخذ وجهتي
إلى البستان.
في بلدتي، الناس تصحو قبل الشروق، تدب خطاهم في الشوارع بصمت وهدوء حتى تطل الشمس
من خلف التلال، فينحلّ في أبدانهم أثر النعاس ، وتنشط الألسن وتدور على ذات
الكلمات، وتهافت السؤال عن أخبار أبي الغائب، عن رتبه العسكرية الجديدة، وخالتي
زوجة أبي وأخوتي البعيدين. فضول ينفخ في الصدر ضريم الهموم:
في أي مدينة يقطن والدك هذه الأيام؟
هل يرسل لكم مالا بوسيلة أو أخرى؟
متى سيسعى للقياكم في بقاع محايدة؟
متى؟ وكيف؟ وأين؟ ...
وأنا أداري ارتباكي بمقتضب الجواب، أتلمس السبل للتملص أو لقمع تحشّر يقبض على
أعصابي المستفزة أصلا. أنفث نفسا طويلا وأغمز في سري: لهذا أحب صحبة الشجر.
ثم أتابع سيري وأنا أدندن أغنيتي: " الإنسان غلطة، والعالم خلق للأشجار ... "
عندما أصل إلى البستان ينسدل ستار العالم من خلفي، وتنفتح أبواب جنتي، وما أقربها
أن تكون، لولا المشهد الحدودي الرابض جهة الشروق. أقعي فوق التراب قبالته مستسلما
لسدور يعبر بي مدى العمر، ثم يعيدني إلى الفصل الأخير محملا بالهموم. أم تنوء
بأثقال الحياة فتحني الظهر شيئا فشيئا، تنكمش تعابير وجهها وتقسو قبل الأوان. وأخ
يمقت العمل، ولا يعنيه من قادم الأيام سوى ما يغّيب وعيه من خمر وسموم، يهجر البيت
ما شاء، ثم يعود ليهز أركانه الآيلة بالتطلب والنفور.
أقول لنفسي: لا بأس أن تكون هذه الهاوية مكانا ألقي به فضلات الكروب، وأعود إلى
عملي أدندن للأشجار أغنيتي عن الأشجار.
عما قريب سُتجنى المحاصيل، فتبدل العصافير قوت موائدها. ستخلع البساتين زي المواسم
وتنتظر عارية موعد المطر الأول، وتعاود الاغتسال هطولا بعد هطول حتى ترق قشورها
وتصبح جاهزة للتبرعم من جديد. لكن الشتاء أيضا يزيد انطواء النفس بانطواء الجسد خلف
الجدران الكالحة. لهذا تراودني الرغبة في أن أستحم هذا الشتاء مع الشجر. سأسابق
الفصول وأبني غرفة صغيرة في بستاني الصغير هذا. سأخرج عاريا تحت شلال المطر، وأرقص
مع الريح، وأميل مع الغيم الذي لا يعرف مستقرا. فإذا ما ابتعد، سأهز الغصون وأستكمل
البلل ولسع البرد حتى يلين جلدي وتنمو في الربيع القريب على جسدي البراعم، سأكون
أول إنسان يتحول إلى شجرة.
لكن أحلام النهار لا تدوم ظلالها في نفس كائن تقطع الكوابيس نومه،
في الليل أرى ريحا عاتية تمزق الغيم وتنثره نتفا، تقتلع سقف البيت وتقذفني إلى
الحقل الممتد على طول الحدود. أنهض مذعورا لاهثا ممتقعا بالعرق، أقفز إلى الشباك
أعب هواء منعشا، وأبلل جفاف حلقي برشفة ماء، وأنتظر متوجسا حلول الصباح.
وحين تضاء السماء بنور شمس لا زالت بعيدة، أكون على الدرب وحدي أستكمل سيري كمن
يستكمل سباقا طويل المسافة، وكلما اقتربت من هدفي ازداد تثاقل أنفاسي، واشتد وجيب
قلبي. ساومت نفسي على الرجوع وتعويض جسدي بقسط من الراحة،
لكن الريح التي رأيتها في نومي تدفعني من الخلف وتزيد تسارع مشيي، فما إن تحل نهاية
الدرب، أكون قد فقدت الشعور بأقدامي، وأسقط أرضا، وأصرخ بعالي الصوت، وأغرف بكفي
التراب وأذريه في الهواء، وأشعر أن عينيّ لا تحتملان بشاعة ما أرى فأغمضهما وأصرخ
من جديد، ثم أتهالك وأذرف الدموع حتى تجف مخازنها.
أفتح عينيّ من جديد وأنظر بلوعة إلى الأشجار المطروحة أرضا، وقبل أن أسائل نفسي عن
الفاعل أرى أثار أقدام الجنود وعجلات جرافاتهم حفرت في التراب الرطب أثلاما أينما
تحركت. استثمروا عتمة الليل، وانسحاب الناس إلى مخادعهم، واقتلعوا أشجار بعض
البساتين، وانسلوا بعيدا لا أدري إلى أين. كتفاحة أحمل رأسي بين كفي متخبطا في
تفكيري وحيرتي وحزني ، وأمضي في طريق العودة بخطى تزحف زحفا على الأرض الرجراجة
تحتي، ولا أجد سبيلا إلا الغناء، فأغني أغنيتي بصوت متهدج ولحن جنائزي رتيب:
" الإنسان غلطة، والعالم خلق للأشجار ... "
يتقاطع ندبي مع رؤى تترى على سجيتها، وتقفز إلى رأسي كلمات شاعر لا أعرف عنه شيئا،
سوى أنه شاعر، وأنه كتب ذات مرة:
" الإنسان الأخضر يحتاج
إلى نوم أخضر
في بذرة نظام الله ... "
ولعلي كنت أواسي النفس عندما حدثتها عن حلمي الجديد في أن أكون أول إنسان يتحول إلى
بذرة، ستكون توأم الغرس الجديد في أرض أعاهد نفسي أن لا تبور.
إذا أنا لست محزونا تماما، وإنما تعتملني أيضا مشاعر غضب شديد يستحضر في عقلي
التركيز ولو بفكرة صغيرة بحجم بذرة واعدت نفسي أن أكونها، ربما في شتاء آخر.
تشغلني الفكرة_ الحلم فأجد نفسي فجأة قريبا من البيت، ومتعبا، وراغبا بنوم طويل
بغير كوابيس، لكن الكوابيس ترصدني أينما حللت، تبدل ثوبا من عتمة بثوب من نور،
وتباغتني في سهادي وفي يقظتي.
ثمة جمهرة من الناس داخل البيت وخارجه، ووجوم يلف الحي بكامله. يضطرب قلبي ويكاد
يفلت من مكانه حين يتراءى لي طيف أمي، أتسمر في وقفتي فيلاقيني أحد الجيران بقية
المسافة التي لم أقوى على سيرها. يربت على كتفي ويسترسل بعد عبارات العزاء:
يقولون، والله أعلم، أن جرعة زائدة قد أودت بحياته.
يااا الله .. يااا الله ..
أكررها بلوعة وأنا أشعر بارتخاء فكي واتساع حدقتا عينيّ، وأتمم في سري:
إذن كنت دون علم مني، أمضي الليل ساهرا بالقرب من جثة أخي.
يحرر وقع المفاجأة قدمي، فأزلف بين الجموع أشق طريقي داخل المنزل. لكن شرطيا يعترض
طريقي عند باب غرفتنا، فأقف متفرسا من فتحة الباب في الجسد المسجى وسط الغرفة،
وأحادثه دون أن يسمعني أحد:
آه من هذه الأقدار يا أخي، لقد بددّت دموعي قبل أن أجيء إليك .
ويمضي شهران وكارثتان وحبان تنازعا قلبي. وأنا أهيم بين سرير أمي المتداعية، وباب
غرفتي الموصد، وأشعر أن هذا المكان يكاد يخنقني، وأن دهشة الحياة قد فارقتني إلى
الأبد. فأحسم أمري، ويستقر قراري أخيرا على الالتحاق بعائلتي خلف الحدود علّ
بداياتي هناك لا تتعثر من جديدة. أتلبس عتمة الليل وأنطلق إلى المطل الذي كنت أودعه
جل أسراري هناك في أعلى الهاوية. أمضي بعض الوقت أصارع الخوف في صدري، وأفكر في
المواضع الأكثر إيحاء بالأمان. وبنظرة أخيرة، أتملى الأشجار اليابسة المطروحة أرضا،
ثم أنطلق وأعبر عند مسيل تجري فيه مياه الشتاء، أنقل الخطو بحذر فوق الحصى والتراب،
أعاهد نفسي ألاّ أنظر للوراء كي لا أضعف. وأتابع سيري ببطء شديد يضغط أنفاسي، لكني
أظل متشبثا بهدفي مستكملا سيري وأنا أحدق مستكشفا موطئ أقدامي حتى أشعر بشيء يًضغط
تحت إحداها، وأخال صرير المعدن المبحوح يخدش سمعي. فأتسمر في وقفتي أغالب رعبي حتى
لا تنم الرجفة عن جسدي. ويمضي الزمن وأنا والعشب والأشجار نميل كما تشاء لنا الريح،
لكننا نظل نقاوم الموت واقفين، إنها حالة أخرى لم تخطر ببالي قبل الآن قط، يتحول
فيها جسد بشري إلى شجرة ..
nshoofy@gmail.com