قصة مثقف
مسعود الجولاني - 27\06\2009
أقبل وقد بدا التعب ينسلّ متساقطا من ملامحه العربية,تحركاته جامدة ونظراته متثاقلة
منهكة ,وكأنه يحمل وحده كل ملفات جهلنا وحسابات قبليتنا,يصعد الدرج بخطوات متباينة
فلا خطوة تشبه أخرى,لعله قرر المجيء على دفعات - وصل جسده أولا وربما تحضر الروح
لاحقا فيتبعهما الفكر والثقافة.
انها الجلسة الانفرادية مع الذات, التي يعقدها كل حين في برجه الزجاجي السحري, حيث
يرقب الناس جميعا بمختلف ألوانهم ولا أحد يستطيع أن يراه.
تبدأ الجلسة باشعال سيجارة تدرك مصيرها المحتوم, كجيش سابقاتها , في صحن سجائر صغير
يقبع في مركز الجلسة المنتظرة....جلسة التأمل التي تعنى بالسلوكيات واعادة ترتيب
الاولويات والمرجعيات ...
آه من عبء هذه المسؤولية بأن تشعر أنك مسؤول عن كل كبير وصغير من الاحياء والاموات
وحتى عن من ينتظرون أن يولدوا...هموم كبيرة تجعله يتوجه الى مكتبته طالبا بعض
الراحة,فيشرع بقراءة شعر المتنبي علّه يهتدي الى فكرة تحل كل المعضلات وتستحضر قارب
النجاة الذي سينقل كل من حوله من ظلمة الحاضر الى نور الغد المشرق,وصار يقرأ برهة
ويرتشف قهوته حينا, وما بين هذا وذاك يعود وينظر عبر الزجاج الى كل الناس بمختلف
اعمارهم وافكارهم...يعظ شفتيه قليلا ,يهز برأسه ,وكأنه غير راض اما عن شعر المتنبي
أو عن نثر من حوله.
وتستمر الجلسة رغم أنه سهي ونام قليلا ولكنه ما زال باحثا عن الوصفة
المثالية...وصفة كل شيء,وما بين قراءة وتأمل,قهوة وسجائر,تنتهي الجلسة ويحسم الأمر
– لقد قرر أن يترجل ويسير بين الناس مواجها منورا ومبشرا بعهد جديد...وهكذا فعل.
وبعد أن غاب عن الأبصار في بحر الحشود وضجيج الهتافات,وفي أول خريف يمر بعد
ذلك,التقى شابان صدفة في محطة الباص بجانب البرج الزجاجي –
قال الأول : "أراد التغيير فسار بركبهم ليغير فيهم,فأين شجاعة المواجهة؟ "
قال الثاني: "عساه يعود للبرج ليبحث في قصائد المتنبي "
قالا هذا ولم ينتبها انه قريب يسمعهما, فأجابهما قائلا:"ربما صدقتما بهذا ,ولكن
أجمل ما فيه أنني تبرأت من ثقافة الصمتِ؟"