الصعود من السهل نحو الجبل داوود الجولاني - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


الصعود من السهل نحو الجبل
داوود الجولاني - 11\07\2009
شق بخطواته العجلة خفيفة الإيقاع كراقص منتشي في عتمة الليل، ومثل ظّل الريح، راح يدفع نور الفجر للقدوم، بينما ظلام الليل يتشبث بفضاء القرية،
 حيث في مكانها المعهود وجدها. لم تتغير ولم يحولها الزمان . تجلس تحت عريشة العنب، تطرد بعينيها ما تبقي من ظلام يلفّ ضفاف الدار... استقبلته برداء أسو د وبنقاب أبيض.
سألته: "أي نار تتقد في عينيك... وأي حزن يعتري وجهك .. ويبلل رمشيك بندى الصباح..... قاداك إلي بعد طول الغياب"؟
فاسترسل بعد أن دسَّ رأسه في حضنها الذي يفوح برائحة طفل يشاغب ويمنع طيران الفراشات فوق أوراق الورود البرية.
قال لها بصوت رجل أعفته الطفولة من عبثها البريء:
"جئتكِ لأشرب تراتيل شفتيكِ فوق كأس الماء قبل أن أذهب في رحلة الصعود نحو الجبل".
قامت من مقعدها ثم عادت وبيدها رغيف خبز وكأس طفح ماءه، وراحت وهي تغمض عيناها تفرك بيدها اليسرى رأس طفلها وبيدها اليمنى ترش الماء فوق جفنيه وهي تبتهل له:
"هذا حزنك مثل باب مغارة النسّاك قد صار مقدسا، فخذه مفتاحا للدروب الضيقة في رحلة الصعود، ولا تعد إلا وخبزي قد تذوقه الطفل النازح عن السهل.
خطى خطواته الأولى في مشوار الصعود فأدمت حجارة الجبل قدميه وجرح الشوك المتربص ساقيه.
نظر إلى الأعلى فشاهد في القمة ثكنة الجنود اليهود وشاهد في القمة آثار قصر ملك اليمن ثم شاهد فوق القمة قبة السماء فصاح من الألم:
"يا يهود الجبل ما جئت لأحاسب الزمن الذي يصبر على بقائكم هنا ويا (تبع) اليمن ما جئت لأزفّ في قصرك حسناء الجولان حتى أكمن لك ثم أقتلك.
يا رب السماء ما جئت لأعود برسالة من مغارة ترفعك فوق الدم الذي ينز من جسدي وإنما جئت لأن الناي الذي يصدح فيَّ قد دلني على درب العثور على طفل نازح من السهل، فاتركوا فيَّ القدرة للبقاء ولو قليلا في سفح هذا الجبل، فأني أشاهد راعيا وقطيع ماعز وطفلا يقفز فوق الصخر قادما نحوي".
جاء الراعي اقترب وضع طرف نايه في فمه وأخذ يجس نبض الكلام:
"هو هذا طفلك تاه في الطريق منذ الحرب التي جاءت إلينا بجنود الثكنة بعد أن نسوه أهله في مشوار النزوح من الجنوب إلى جرمانا..
هو هذا طفلك لم يكبر، شرب من نبع مخفي في الجبل فاستطاب الطفولة، ولكنه يرفض العودة إلى السهل دون أهله.
هو هذا طفلك كم يشبهك لا فرق بينكما سوى أنه نازح عن المكان. وأنت نازح عن نفسك فخذه بين ذراعيك، أطعمه قمح السهل واسقه الماء المعطر بتراتيل شفتي أمك. لعل الماء الساخن بكلام الأنبياء يطفئ الظمأ الساكن فيه".
لكن الطفل رفض احتضان المسربل بالحزن وقال:
"لن أعود إلا إذا عادوا.. سأبقى هكذا أطل عليهم، وسأبقى من مكاني هذا أحرس أشجار التين والرمان واذكّرهم أني لا اكبر في العمر، وان سريري الحديدي المزركش بالغبار مازال في ركن الغرفة ملاصق للحائط الحجري .وسأبقى أحملهم وزر وجع طفل لم يجد كتفا يحمله في وقت النزوح، وأن النسيان أبقاني لأفتح لهم نوافذ من الذكريات التي تطل على الحقول وعلى جدران صمدت بعد أن أفرط سقفها في سرعة السقوط.
أما أنت أيها القادم من السهل فعد أدراجك نحو سهل قراك. فطفلك الذي يشبهني ما زال هناك مغطى بأوراق وردة تنبت في أقرب حديقة".