وكأنها عنزة
مسعود الجولاني - 19\07\2009
بعيون ذابلة يحاصرها النعاس ويطوقها التعب، وبجسد غض أنهكه السهر... تحتضن الأم
الحنون طفلتها ريما، وشفتاها تتمتم لا إراديا بنغمات الأغنية الرقيقة التي لطالما
سمعناها، "يلا تنام ريما، يلا يجيها النوم...".
حكاية أم يغار البحر من عطاءاتها، وتحسدها الشمس على دفء المشاعر وحرارة التحنان،
وقصة أب حنون دائم الشوق لابنته، حاله كحال نسمة كلما قّبّلت وردة كلما اشتاقت أكثر
لطيب العناق. وبين هذه وذاك تكبر ريما وتتعاظم أحلامها... تمتطي جواد العلم وتجول
في بيداء الثقافة. وكانت إذا أقبلت بطلتها البهية وبخطواتها الواثقة، خطفت الأبصار
وسحرت العقول. وإذا حضرت في مجلس، كان حضورها طاغ إلى أبعد الحدود.
ولتقادير ربانية لم تحض ريما لسنوات طويلة بأن يكون بجانبها أخ يعينها أو أخت
تساعدها. ومع توالي السنين بالسنين، كبر والداها وصارت تعنى وتهتم وتدير كل الأمور...
حتى البستان الذي لا يملكون غيره، قد أصبح من مهامها و مسؤولياتها.
وبعد مرور الأيام... ولسر خفي وأسباب مجهولة، أنعمت الآلهة على ريما بأخ، كان قدومه
أشبه بالمعجزة... بعد هذه السنين وبهذا العمر... تلد الأم طفلا، أبت ريما إلا أن
تسميه "سيّد".
ويكبر سيّد بأحضان أخته التي ترعاه وتهتم بتربيته، حبا له وتقديرا لظروف عائلتها.
وشاءت الأقدار أن يرحل الأب ليقابل ربه... فذرفت ريما دموعا حرّى، ونزف قلبها كشمعة
تذوب حرقة وشوقا. أما الشاب سيّد فقد اختلطت عليه المشاعر ما بين حزن وارتباك،
وكأنه يبوح بحزن على أب لم يعرفه جيدا.
وبعد أن انقضت الأيام المعدودة التي نقرأ فيها من ملحمة الموت ونستقبل خلالها
المعزين الموشحين بالسواد، أيقظت الأم العجوز أبنيها في ساعات الصباح الباكر وطلبت
الاجتماع العاجل... وكانت تحمل بيدها ورقة صغيرة، بيضاء اللون... وبصوت هادئ ملؤه
الثقة والسكينة، قالت مخاطبة ابنتها ريما: "لقد كان والدك أبا حنونا عطوفا، وهذه
الورقة لهي دليل قاطع على ذلك، لقد أوصى لأخيك سيّد البستان كله بسمائه وأشجاره
وترابه، ولقد سمح لك إذا ضاقت عليك الدنيا وتعسرت المسالك، وإن أمسكت رحمة السماء
وحل غير المأمول... لقد سمح لك عندها أن تزوري البستان برهة، على أن تغادريه بعد
حين... حقا انه قمة العدل ومنتهى الإنصاف".