بعد 42 عاماً.. عصام يرى والده للمرة الأولى
مجدل شمس \الجولان – نبيه عويدات - 05\08\2009
إنها مأساة أخرى من مآسي تشتت الأسر الجولانية على طرفي خط وقف إطلاق النار، والتي
تتابع فصولها منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للجولان عام 1967. إنها قصة ربما كنا
لنشاهدها في أحد الأفلام الهندية، وكنا لنقول بأن كاتب القصة أو المخرج قد بالغ
فيها:
كان نايف مجنداً في الجيش السوري، يؤدي الخدمة العسكرية في بانياس في الجولان في
الستينات من القرن الماضي. نسج علاقات صداقة متينة مع مجموعة من الشباب من مجدل شمس،
فكان يزورهم بين الحين والآخر. وشاءت الصدف أن يتعرف بهنية أبو صالح، فخطبها من
أهلها وتزوجا على سنة الله ورسوله وأنجبا بنتاً.
ولظروف لا يمكن تفسيرها إلا بالقسمة والنصيب وقع الطلاق بينهما، وكانت الزوجة هنية
حبلى للمرة الثانية. الأب غادر إلى مسقط رأسه قرية العينات جنوبي السويداء، وبعدها
بمدة قصيرة أنجبت الأم طفلاً أسمته عصام، وبات الناس ينادونه منذ ذلك الحين «عصام
هنية». أما عصام فلم ير والده يوماً ولم يحدثه.. ومرّ على ذلك 42 عاماً.
الأسبوع الماضي، وبعد تحضيرات واستعداد وتنسيق استمر عدة أشهر، التقى عصام بوالده
للمرة الأولى في عمان، فكان لقاء عاطفياً مؤثراً جمعهما على مدى اربعة أيام. عاد
عصام إلى الجولان لكن عقله وقلبه بقيا هناك. يتحدث إليك وفي حديثه مزيج من الفرح
والحزن.. فرح للقاء.. وحزن على السنوات التي ضاعت من عمرهما دون لقاء، وشوق للقاء
آخر لا يعلم أحد إن كان سيتم ومتى وأين وكيف!
التقينا عصام نايف قضماني في بيته في مجدل شمس بعد عودته من عمان، وسمعنا منه قصته
الغريبة تلك. يقول عصام:
لم أر والدي قبل هذا اللقاء في حياتي، وتقول لي والدتي أنه رآني مرة واحدة عندما
كان عمري سبعة أيام، بعدها وقع الاحتلال وتعذر اللقاء، فبقينا أنا وأمي وأختي في
الجولان وهو في قرية العينات في السويداء. ترعرعت في كنف أمي وأخوالي وكبرت دون أب،
حتى أن الناس كانوا ينادونني عصام أبو صالح نسبة إلى أخوالي.
في الثمانينات تزوجت أختي بشاب من مسعدة، كان له أخ يتعلم في جامعة دمشق، فاتصل ذلك
الأخ بوالدي وأتى الاثنان إلى منطقة عين التينة قبالة مجدل شمس وتخاطب معنا عبر خط
وقف إطلاق النار. كان ذلك اللقاء نقطة تحول في مشاعري، حيث أحسست للمرة الأولى أن
لي أب، وأصبح لقاؤه هاجساً يشغل فكري على مدى السنوات التالية.
مرت السنين فتزوجت وبنيت بيتاً وأنجبت ثلاث بنات، كنت دائماً أحدثهم عن جدهم وعن
حلمي بأن التقيه وأتعرف عليه. والدي كذلك تزوج من امرأة أخرى خلال هذه الفترة وأنجب
أخاً لي، لم ألتقه قط.
بعد السلام بين إسرائيل والأردن بدأ الناس هنا يسافرون إلى عمان للالتقاء بذويهم من
الشام، وبدأت أنا أفكر بذلك لكن الظروف لم تكن تسمح...
مؤخراً تم التواصل مع والدي واتفقنا على الالتقاء في عمان، فحددنا الموعد وجهزنا
أمورنا. منذ ذلك الحين أصبحت الأيام أطول والوقت يمر ببطء، أما النوم فجافاني في
الليل، وكنت أخاف أن يحدث خطب ما ويتعذر اللقاء.
أخيراً جاء يوم السفر. لا أستطيع وصف شعوري لك عندما عبرنا الحدود مع الأردن.. بات
تحقيق الحلم على مرمى حجر...
.. في عمان كان اللقاء... تعانقنا، ثم تعانقنا، مراراً وتكراراً. وبعد كل عناق كنا
نبتعد قلياً ونتأمل أحدنا الآخر... لم أصدق نفسي، كذا والدي... كيف لا وقد انقضى
اثنان وأربعون عاماً، وكل منا كان فقد الأمل باللقاء. في هذه اللحظة أصبح لي أب،
وفي هذه اللحظة ولد لأبي ابن...
قضينا في عمان أربعة أيام، هي أجمل أيام عمري. حاولنا خلالها التعرف إلى بعضنا
البعض، فروينا الكثير الكثير من القصص.. ولكن بقي الكثير.. فهل بالإمكان أن تستعيد
اثنين وأربعين عاماً في أربعة أيام.. هذا مستحيل...
أربعة أيام انقضت كلمح البصر، فحانت ساعة الوداع. وقفنا طويلاً على باب الفندق.
ومرة أخرى كان هناك الكثير من العناق.. والكثير من البكاء والدموع. كنت أعانق والدي
وأفكر: هل سأراه مرة ثانية؟ لقد أصبح في آخر العقد السابع من عمره. أعانق أخي الذي
تعرفت إليه للتو.. سأشتاق إليه كثيراً...
منذ عدنا إلى الجولان، أنا وزوجتي وبناتي، أصبح حديثنا فقط عن هذا اللقاء. وكأن
حياتنا بدأت هنا. أصبح لبناتي جد وعم. لا يمكنك أن تتصور كم يشعرن بالفرح والفخر
عندما ينطقن بكلمة جدي، أو عمي...
الآن بدأنا التفكير في تنظيم لقاء آخر، فلا يمكننا بعد أن تعرفنا بهم أن نطيل البعد.
ويختم عصام كلامه بالتمني بان يتمكن كل أهالي الجولان الذين أبعدتهم ظروف الاحتلال
عن أحبائهم من الالتقاء بهم، ويتمنى بأن يلتئم الشمل من جديد ويكون لقاء دائماً لا
ينغصه احتلال أو أي شيء آخر.