عذراء الروح
زرقاء اليمامة - 16\08\2009
كنت كغيري من الناس، فأنا واحد منهم، واحد مثلهم، أتنفس
هواءهم وأشرب من نفس مائهم. لست بغريب عنهم ولست مميزآ بينهم. أخذتني الحياة
ومتاعبها كما أخذتهم وحولتني إلى آلة على خط إنتاج، تعمل وفق الساعة، فكلما زاد
دورانها.. ربما ازداد إنتاجها، وربما قل... تعمل ليل نهار علها تستطيع أن تقف عند
متطلبات هذه الحياة السريعه! تعمل غير آبهة لما يمر عليها من تآكل في كل خاماتها..
فهي على يقين أن دورانها سيتوقف وسينخرها الصدأ.. وعندها ستنحى جانباً في مصنع
الحياة الزاخر، حيث لا بديل عن الاستمرارية.
كانت أيامي تمر كلها هكذا، زاخرة بالعمل، أتناول غذائي سريعاً وأشرب مائي سريعاً،
وأتسابق مع الزمن لانجاز أكبر قدر من العمل، حتى شاءت أقداري أن أجلس لوجبة عشاء
متأخرة، بعد نهاية يوم عمل طويل.. وكانت هي من بين الحضور... لم يسبق لي أن
التقيتها من قبل. وكذلك هي. كنت أسترق النظر إليها كلما سنحت لي الفرصة. فقد سمعت
الكثير عنها. عن تكبرها. عن تجبرها. عن نرجسيتها. سمعت الكثير الكثير عنها، ولكن
أمام سحرها وجمالها وأنوثتها ورشاقتها، التي تبهر الأنظار، لم أستطع إلا أن أتحين
الفرص لأسترق بعض النظرات إلى ذلك الكائن الجميل، والخوف يسكنني أن تلحظ نظراتي
فتقوم بطريقة أو بأخرى بصدي. لم أبالي بهذه الرهبة التي كانت تجتاحني! بل الشعور
بالرغبة في مشاهدتها والاستماع لصوتها سحق إحساس الخوف بداخلي.
الساعة متأخرة ليلاً، والكل قد أنهكه التعب بعد شقاء يوم طويل. تقدم الجميع للجلوس
حول طاولة الطعام، وقد كنت أنا المبادر بدعوة الجميع للجلوس بأماكنهم، علني بذلك
أستطيع أن أرتب لي مكاناً لأجلس بجوارها، ولكن لسوء حظي لم يكن لي ذلك. الكل يتناول
الطعام والشراب والخمور، ونتبادل أطراف الحديث حول هموم الحياة ومشقاتها.. نشارك
جميعآ.. نختلف حول الكثير من النقاط، ونتفق حول واحده. وكانت دهشتي أنها تتفق معي
في أغلب ما اطرحه! وقد كنت ضمنياً أتفق معها حول طرحها وأوافقها تماماً رأيها، ولكن
حبي وشوقي للجدال والسجال معها، ولكي أستطيع أن استرق أكثر وقت ممكن لأحادثها،
والنظر إلى عيونها، جعلني أتعمد أن اختلف بالرأي معها بكثير من الأمور...
لقد أحسست أنها تعي ما أفتعله. فقد كانت ترمقني ببعض النظرات، وكأنها تقول لي: كفاك
اجتهاداً! أحسست أنني أجلس أمام بحر واسع من الجمال والأنوثة، والحكمة، والثقافة...
بحر لم يستطع أي كائن يغوص في أعماقه ليستكشف أسراره. كنت أعلم أنها على دراية بما
يجول في خاطري، فما كان منها إلا أن بدأت الحديث بالسؤال عن موضوع يخص مهنتي تحديداً،
فاستشعرت عندها أنها قد شرّعت لي المداخل كي أتحدث بكل طمأنينة وبدون توتر.
ونظراً لأن الموضوع لا يهم أغلب الجالسين إلى المائدة، ونظراً لأن جلهم قد أخذتهم
حالة من السكر، عندها استرقت الفرصة لأطلب من الجالس إلى جوارها أن يبادلني المكان،
فكان لي ذلك. نعم، ما أن بدأنا الحديث حول موضوع مهنتي حتى انتهى حينها... وكأنه
أسرع نقاش دار بيني وبين بشر! انتظرت لحظة وكأنها تريد أن تقول لي: هات ما عندك. لم
أخذلها. وقد تحدثنا عن الكثير الكثير، وتاه بنا الجدال إلى آفاق بعيدة، جعلتنا
نمتطي صهوة جواد الخيال، فنتيه به إلى جزر لم تطأها قدم بشر.. إلا أقدامنا...
مرت الساعات والدقائق بسرعة الضوء. ساعة الفجر اقتربت. لملمت نفسي أنا والآخرين
واتجهنا كل إلى جهته... وخلال مسيرتي من مكان لقائها إلى مكان مخدعي كنت أتساءل:
أهذا اللقاء نعمة من الأقدار، أم نقمة منها؟! وأتساءل، ثم أجزم أنها النقمة، لأني
لم ألتقها من قبل. فلو التقيتها من قبل كانت لي حبيبه. لا ما هذا الذي أفكر به؟
أنفض رأسي ثم أقول وأجزم أنها نعمة أني التقيتها الآن، وتعرفت إليها، فأن تأتي
متأخراً خير من أن لا تأت ابدآ...
حاولت عند الوصول إلى سريري أن أغفو ولو قليلاً، ولكن خيالها كان يراودني ويجتاحني...
أتقلب بفراشي.. تارة أدفع الغطاء عني، وتارة التحفه... لم أستطع النوم. اقتربت ساعة
الصباح وأنا لم أنعم بلذة النوم، ولكن هذا لم يثنني عن الاستيقاظ صباحاً لأعاود
مزاولة العمل على مقربه منها. وثابرت على زيارتها بين الحين والآخر لأجالسها،
وأتمتع بالنظر لجمالها، والاستماع لعذب حديثها، لاكتشف حينها أنها إنسانة قل مثيلها.
فهي عكس ما يقال عنها. إنها جميلة، أنيقة، حكيمة، جذابة، أنثى، وإنسانة بكل ما تحمل
الكلمة من معنى. إن ما قيل عنها لم ينبع من الفراغ، فهي قد عانت الأمرين. إذ اجتمع
الدهر والبشر عليها... صنعت مستقبلها بيدها. بنت بيتها بجهدها وعملها وشقائها، وكل
ذلك على حساب أنوثتها، فلا تراها الا بين مشاق العمل ومتطلبات ومشقات المنزل، فهي
الأم الحنون، والزوجة الملتزمة، والأخت الحاضنة، والابنة المطيعة، والجارة المضيافة،
والعاملة المجدة المجتهدة. أخذتها الحياة كما أخذتنا جميعاً. لم تمنحها الفرصة أن
تكون كما يجب أن تكون... أن تحب.. أن تعشق.. أن تشعر أنها امرأة، فتلجأ عند الصعاب
لأحضان رجل يحبها ويحميها ويكون عونآ لها... نعم إنها ليست عذراء الجسد، ولكني أجزم
أنها عذراء الروح.. حيث لم يستطع رجل أن يقتحم أسوار روحها ليسكن فيها...