أبو الإصبع - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني

أبو الإصبع
نضال الشوفي - 17\09\2009
لم يعد المكان البارد ملثماً بالصمت والشرود بعد أن جُررت إليه جرا، وتمثلت فيه دور الراوي دون قصد مني، كل ما هنالك أني بعد أن قذفت من فتحة الباب الحديد، وبالكاد وازنت نفسي حتى انتهيت واقفا عند مصب النظر، تأملت على مهل وجوها مموهة في شحة النور، ثم أسندت ظهري إلى الحائط المعرورق، وطويت ساقيّ مقرفصا فوق البلاط.
تحلقت أشباح المكان من حولي ممعنة أنظارها بالقادم الجديد، ولما تلمّحتُ عن قرب قسماتها غير الأليفة، بادرت بالسؤال عن أبي الإصبع، فأشاحت الأنظار عني تجاه بعضها البعض، ثم سألني أحد:
_ من هو أبو الإصبع؟
تداركت وقد لمع في ذاكرتي أن اللقب من ابتكاري: _ إنه جاري ورفيق طفولتي.
سأل آخر: _ ومن تكون أنت؟ ...
على هذا النحو استحلت راويا، وأنا ما اخترت مهنة الصحافة إلا لأقف على الطرف الآخر من سير الحياة، أصغي وأسأل وأنتقد، بل أكيل الاتهام أحيانا، بطل قصتي ذاته تجرع مني مرّ الصفات، وسمته بالانحلال والاستهتار في غير مناسبة، ورفعت صوتي بوجهه حتى صار يتعمد التهرب مني، هالني ما انتهينا إليه فبادرت إلى ترميم علاقتنا بدءا بوضعه موضع الرجل الحيادي، تماما مثلما سلّمت أمري في شأن أقرب الناس إليّ من قبل.
كان لساني مشلولا داخل فمي الموصد، فلم يتسن لأحد سماع هذا الجزء من الحكاية، طال صمتي فكرر أحدهم:
_ من هو أبو الإصبع؟
تنحنحت مانحا نفسي فرصة أستعيد خلالها الوعي فيما أنا عليه، وأخيرا نطقت:
هو رجل في مثل سني، يجوب الأزقة النحيلة كل نهار، يحمل حقيبة صغيرة، ويعلق على صدره آلة تصوير ، ويحشر إصبعه المدبب في أنفه دون اكتراث لعيون المارة، والتقزز البادي على وجوه البعض منهم، لكن ذلك ما كان ليثني زبونا يسعى لتوثيق موضع من ذاكرته في صورة فيدعو مصورا جوالا لالتقاطها.
كان أبو الإصبع ينتصب في وقفة تحاكي أعمدة المدينة القديمة، يحجز الهواء في رئتيه بعد أن ينتهي من العد، ثم يضغط على الزر بحركة خاطفة، وفي انتظار مخاض الآلة بابتسامة تكلفها وجه بائس، يرفع الإصبع المدبب ذاته، وينكش أنفه في عادة قبيحة لا يبدو أنه سيقلع عنها حتى آخر العمر.
لهذا كنيتّه أبا الإصبع، فبدا كأنه استساغ اللقب ولم يرتدع ، ولأن بيتي ملاصق لبيته كنت أتردد على حجرة مواربة يدعوها معملا، وادعوها بدوري وكرا لأهواءٍِ تحقنه بها المدينة قبل أن يؤوب، الصور المتزاحمة على الجدران بأحجام مختلفة استؤصلت من المجلات بعناية كي تحاكي حلمه بالمال، عندما يصبح ذات يوم مصورا لمشاهير أهل الفن والموضة...
هنا قاطعني رجل تستّرت معالم وجهه تحت لحية وشارب كثين:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله...
طال التفاتي إلى الرجل فأشار إليّ آخر بأن أكمل، تابعت متحايدا وصف المكان:
كان أبو الإصبع كلما اشتدت عليه وطأة الحديث يدير لي ظهره، حاجبا عني التوجس الرابض في عينيه وهو يقول:
_ تركنا السياسة لأصحابها من أمثالك، فاترك الناس تعيش.
قاطعني من جديد رجل حفر الزمن في وجهه أخاديد عميقة تشي بعمر تبدد في المعتقل:
_ ولماذا تسأل عن شخص كهذا هنا؟ أجدى بك أن تبحث عنه في الشوارع إن كان مكوثك بيننا لن يطول.
أجبت منفعلا: _ على رسلك، هو رجل يحث السعي وراء رزقه سيرا على قدميه، وليس متشردا يتسول نقود الناس، أو ثوريا مثلك لا يثنيه المصير الذي انتهى إليه...
قاطعني الرجل ثانية دون أن يصدر صوتا. يده الممدودة نحوي بلفافة تبغ أخمدت ناري، قال: _ إنما قصدت أن أحلام صاحبك لا تفضي إلى السجون.
قلت: _ صحيح، لكنها تؤتي حماقات تودي بصاحبها، فهذا الساذج أبو الإصبع عزم أخيرا ألا يدع وجها جميلا يمر به دون أن يختلس له صورة أو أكثر، كان يثبّت آلة التصوير على صدره مستنفرا إصبعه الثخين على الزر، وعندما كان يخطئ التصويب مرة تلو مرة، يرمي الصور في الحاويات القريبة التي يمر بها.
تعوّذ الرجل الملتحي بالله، فلم أعره انتباها هذه المرة، تابعت:
ذات غسق صيفي، كان شعاع الشمس يهم بالقفز من نافذتي إلى السرير عندما أيقظتني جلبة وحراك غير مألوفين في مثل تلك الساعة، نفضت شبق النعاس برشقة ماء بارد على وجهي، وخرجت مستطلعا فوصلت بعد فوات الأوان، كانت سيارات الأمن قد انسحبت بعد إنجاز المهمة، لقد قبضوا على الرجل بعد أن روعوا أهل بيته، ولم يفصحوا عن الأسباب.
_ وهل تتوقع غير ذلك؟
كان الصوت الخشن غريبا علي، فصاحبه لم يتواصل معي من قبل سوى بتلك الإشارة اليتيمة بيده، وكاد هذه المرة أن يطلق ذكريات اعتقاله من خلف جدار صمته المزمن، لولا أن الرجل الخبير قاطعه بسؤالي:
_ أما من سبيل لصحافي مثلك يستطلع من خلاله الأمر؟
أطلقت تأوها امتد حتى نفاد الهواء في رئتيّ ، قلت:
_ بلى، لقد كلفتني معرفة التهمة ثمن وجودي بينكم، لكني لم أفلح أبدا في كشف مصير الرجل.
في هذا الجزء من الحكاية تأنيت وأنا أرى العيون الشاخصة نحوي تفضح فضول الجميع وتعطشهم لما سوف يأتي، لم أشأ دغدغة النفوس المنهكة أصلا، فتابعت برنة صوت خفيضة منكسرة:
_ في المركز رمى المحقق على الطاولة تحت أنظار المتهم مجموعة من الصور، وأطلق بوجه أ
بي الإصبع تهمة العمالة.
ساد هرج واستنكار انتهى عند السؤال:
_ كيف يحصل ذلك؟
أجبت بذات النبرة المنخفضة:
_ لم ير المحقق في الصور وجوها جميلة، إنما كانت أعماقها تبرز قاع الحياة، لقد ترك صديقنا المسكين السياسة لأصحابها، لكنها لم تتركه أبدا.