عطلة في شوارع القنيطرة
داوود الجولاني - 03\10\2009
لم يكن الغريب بأمر أيمن أننا أنا وهو نسكن حارة تحاذي أسلاكاً ممنوعة البنادق من
عبورها، فهذا أمر تعودنا عليه واستطبناه منذ عام 1973، واكتفينا بعبور المسلسلات في
شهر رمضان، أعاده الله عز وجل علينا بالجزء الخامس من مسلسل باب الحارة، ومن ضحكات
مسلسل ضيعة ضائعة. ولم يكن الغريب أيضا أن بشرة وجهه البيضاء ولون عينيه الزرقاوين
وأنفه الطويل لا يشبهون أبيه وأمه، فربما يعود هذا لأجيال بعيدة لجدّه أو لجدّته،
ولكن هذا لم يردع نساء الحارة من الشوشرة والقلقلة أن أمه شوهدت مرات عدة وهي تنظر
خلسة لقمر سقط وأختبئ بين سنابل القمح في جنوب الجولان.
الغريب أن أيمن ومنذ ثلاث سنوات صار يردد أمامي أنه يتذكر صوراً من حياة سابقة
عاشها قبل أن يولد، والمثير للدهشة والعجب قوله بأن سقوط المطر الأول يجعله يرى
صورة غامضة من حياة عاشها في قرية مبنية من حجارة بازلتية سوداء، وأن هذه القرية
تطل على بحيرة طبريا.
هكذا دأب أيمن ينتظر هطول المطر الأول في كل شتاء حتى ولو سهر الليل كله ليقص لي
مجريات حياته السابقة، ففي شتاء ما حدثني قائلا :
"أنا الآن أقف تحت شجرة تين بجوار بيت حجارته سوداء، ولكن طائرات الهليكتوبر التي
تحلق فوق قريتي أخافتني... فأنا الآن أركض نحو الشمال ولكن الغبار المتطاير من حولي
يعمي نظري فلا أعرف أي درب أسلك".
وفي شتاء آخر قال:
"أنا الآن التفت إلى الوراء فأرى قريتي في الليل مثل طفلة تتسلق جدائل أمها السوداء
وتندّس في الفراش، ولكنها حين تسمع صوت الطائرات تنعس حيطانها وتنام".
وفي شتاء قبل هذا الشتاء قال:
"أنى أركض ولكن الألم يوجعني فأتمدد بين صخرتين في الطريق بين قرية عين الحجل وجبل
الشيخ... وهناك أحس بيدين طريّتين ترفعاني نحو الموت.. لا أعرف.. أم نحو السكن في
حارة تحاذي الأسلاك.. لا أذكر".
رغم أني أؤمن بالتقمص لكني لم أصدق قصة أيمن. فكيف تنتقل الروح من جسد ولد في جنوب
الجولان لجسد ولد في الشمال، حتى جاء يوم ذكرى حرب تشرين، وبالتحديد يوم الثلاثاء
الساعة الرابعة من بعد الظهر من سنة 2009. كنت قبل يوم قد دعوته لجولة من المشي في
قرية دمرت بعد أيام وجيزة من حرب 1967، فاستجاب لدعوتي وقد امتلأت عينيه بأسئلة
حيّرتني، هو نفسه قد لا يعرف الإجابة عليها، وحيرني أكثر سؤاله:
"هل تظن أن حرب تشرين قد أعادت إلينا أغانينا القديمة؟"
لم أجب على سؤاله، لأني وببساطة لا أغنّي، و لكنني أمام إصراره أجبت: "قد علمتنا
الرقص فوق وجه ماء لا يروي".
سرنا قرابة الساعتين في مكان داسته الدبابات، حتى استحال غبارا من تراب أحمر انتشر
في الهواء، ويبدو أنه بقايا قرميد سطوح بيت شراكس القفقاز، الذين أهدتهم الآلهة
ينابيع الجولان وضفائر من عباد الشمس وزرقة العيون من سماء صافية، بعد يوم مثلج على
سفح جبل الشيخ، فسكنوا وفي ذاكرتهم ألم رصاص جنود قياصرة الروس.
وصلنا إلى قرية لم يبق منها إلا لون الحجارة الأسود، وقد كان أيمن يلهث ورائي من
فرط التعب والعطش، إلا أن ريح باردة كانت تهب تنذر بشتاء قادم خففت من لهاثه ومن
عطشه، فسار أمامنا يعدو مثل ظبي يقفز فوق الحجارة وفوق الركام، وينتقل من زقاق إلى
شارع ضيق وكأنه يعرف المكان، حتى وصل إلى شجرة تين أمام منزل لا باب فيه فقال لي:
"هنا أشعل نارك لندفأ، فأن المطر الأول قادم مبكرا هذا العام لا محالة".
جلسنا حول موقد صغير وأخذنا نأكل عرائس من خبز صاج مدهونة بلبن وزيت زيتون وندردش...
حتى وقف من بيننا وانطلق، فانطلق من غروب الشمس غيم وصدح رعد وشاهدنا برقا ورأينا
غزالا ينطنط بين الصخور،
ثم وقف فوق سطح لم ينهار بعد، وقد أغرقته زخّة من مطر، فراح مثل ديك يرقص بين دجاج
يرفرف بجناحه لملاقاة عجوز طلّت ومن كفيها ترش أمام عتبة الدار حبّات قمح.
قال:
"ها أنا أتذكر كل حياتي السابقة وأشهد الزمان، فتعالوا إلى وامشوا ورائي تحت الغيث
المطهّر لروحكم فأني أرى".
فرأينا..
رأينا بساتين الفاكهة من موز ورمان وتين وصبار وبرتقال. ورأينا حقول القمح والشعير.
ورأينا قطعان من الحمير والماعز والبقر والخرفان. وشممنا رائحة نبات الزعتر
والجرجير والشومر والعلت والعكّوب والدردار والخرفيش والخبيزة والرشاد. وشممنا
رائحة نبتة محيرة مثيرة.. شممنا عطر نبتة دم الغزال، ورأينا قرية الياقوصة وهي
بسكانها تمد القمح لجنود خالد في حرب نهر اليرموك، ورأينا خان النزلاء في قرية
الجوخدار يعجّ بناس من كل لون. وكيف حطّوا ترحالهم من قماش وعنب وناموا بلا خوف.
رأينا في القنيطرة شارع السعادة، وفيه عروسان يتبختران، أمامهم شبّان يدقون جزماتهم
فوق التراب وبأيدهم خناجر تتراقص في جو تنساب فيه موسيقى الأكورديون، بينما الريح
تنقل من القرى المجاورة صوت الطبلة والمزمار، ورأينا موائد من فاكهة وخبز، ومن لبن
وعسل، وسمعنا شيوخا من عرب يرحبون بجيرانهم التركمان.
ثم اشتد المطر، ولكن أيمن لم يعر صياحنا له بأن يدخل المنزل الذي كنا فيه أي انتباه،
بل تسارعت حركات قدميه فوق السطح فخفنا عليه من السقوط، ولكن قسمات وجهه بدت لنا
وكأنها صارت حجرا يدير مطحنة مهجورة، ثم تخيلنا أنه غاب عنا وكأنه صار شتاء، رأينا
قرية تل الفخار وكيف الملازم أسعد بدران أطلق رصاص بندقيته نحو الأشقر اليهودي،
فمات منهم ستون محارب. ثم رأينا كيف التحم جسدنا بجسدهم... ونحرنا ونحروا اللحم
بسكاكين بيضاء وباللكمات وبالنتش. وعند الساعة الواحدة من زمن 9 حزيران 1967..
سلّطوا نسور الطائرات علينا، فاستشهد منا من مات، وسأل منا من بقي حياً: "لماذا
غلبونا؟"
ثم سمعنا صوت أيمن يقول: "أنظروا هناك.. فثمّة مئذنة وكنيسة تنهاران"، وسمعنا صدحا
يصلي:
"يا الله.. يا الله.. يا رب السموات.. كيف لا ترى 90 ألفاً وأكثر ينزحون..
يا الله يا الله .. يا رب السموات... كيف لا ترى الجنود اليهود يجمعوننا في قرية
الدوكة، سكوفيا ، الخشنية، الدردارة والعزيزات والقنيطرة، وفي كل القرى؟؟؟ ألا ترى
كيف يقتلون الطفل والشيخ والنساء؟؟؟
يا الله يا الله لقد سقطت.. وسقطت من السماء كتب الأنبياء".
فرد صوت جلجلَ المكان:
"لا ذنب لي ولا معرفة بل هم... فشاهدوهم".
فشاهدنا بركة الجليبينة وأحسسنا ماءها البارد، ولكن الضباط تركوا الماء وراحوا
يزرعون أشجار الكينا حول ثكناتهم وفقا لنصيحة إلي كوهين، وشاهدنا كيف أمواج بحيرة
طبريا تلاحق جندي فرّ وتقذف قفاه بفردة حذاء نسيه.
شاهدنا أيضا آخر ما شاهدنا، أم حمزة تقف أمام بوابة سينما الأندلس وتقول لجندي
يهودي: "لن أغادر القنيطرة حتى أشاهد آخر أفلام أم كلثوم".
هنا توقف المطر عن السقوط.. فعاد أيمن إلينا منهكا من البرد، وقرفص أمام النار
ساندا رأسه بكفيّه وقال:
"أنا الآن لا أرى شيئا .. لكنى أسمع خشخشة صوت قادم من راديو دمشق يعلن عن عطلة في
شوارع القنيطرة".