من
قتل ريتشل كوري؟
سليم أبو جبل - 07\10\2009
حين سُئلت مخرجة فيلم "ريتشل" في تمام الساعة السابعة، موعد العرض، من قبل أحد
الحضور إذا ما كانت إسرائيلية؟ أجابت: "كنتُ إسرائيلية.. وربما لم أزل كذلك، لكن
على طريقتي.." السؤال لم يكن متوقعًا، خاصة وأن العادة تجري أن تأتي الأسئلة بعد
انتهاء العرض، كان هذا إنذارًا بأن أسئلة ما بعد العرض ستكون ساخنة. وبدأت الشاشة
تحكي قصة الفتاة الأمريكية "ريتشل كوري"، فيلم جديد للمخرجة سيمون بيطون؛ إسرائيلية
الجنسية، فرنسية الإقامة.
تركت ريتشل حياتها الهادئة وعائلتها الدافئة، تركت بيتها ذو المساحات الخضراء، كما
تقول في أحد رسائلها.. لتأتي وتتضامن مع الفلسطينيين العُزّل في رفح، وتحديدًا على
الحدود الفاصلة بين غزة ومصر.. وتقضي نحبها على يد جرّافة إسرائيلية في الموقع الذي
عمل فيه جيش الاحتلال على جرف البيوت المحاذية للجدار.. كانت مهمة ريتشل التي
اختارتها عن قناعة، منع الجيش الإسرائيلي من هدم مزيد من بيوت المواطنين
الفلسطينيين، لكن إحدى هذه الجرّافات انتزعت حياتها وهي في عمر 23 عامًا..
في سلك التطوع
أصبحت ريتشل كوري رمزًا للتضحية بالنفس.. فما الذي يجعل فتاة أمريكية تأتي إلى غزة
رفح، تقاوم جرّافة إسرائيلية ليل نهار.؟ بعد سنوات تبدأ سيمون بيطون بالبحث في
ملفات الجيش الإسرائيلي وتستجوب الشهود، لكنها سرعان ما تتخلى عن الهدف.. فلا يعود
يعنيها إن كانت قد ماتت عمدًا أم عن طريق الخطأ.. الأهم من هذا هو سرد حكايتها،
والتي هي بالضرورة في هذه الحالة، حكاية الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يرى العالم،
إلا من وراء جرّافة!
تظهر ريتشل كوري في تسجيل فيديو وهي في عمر عشر سنوات، تُلقي كلمة في مدرستها تعبّر
فيها عن تعاطفها مع أطفال العالم في مناطق الصراع والجوع، طفلة شقراء لا يتوقع منها
أحد أن تقوم بشيء آخر غير حلّ وظائفها البيتية، مراقبة نضوجها الأنثوي القريب، وسرد
أسرارها الصغيرة لصديقاتها. في هذا التسجيل يمكن رؤية ريتشل الصغيرة تصرّ على ضرورة
إحقاق العدل في هذا العالم المجحف، وجهها الطفولي يبدو غاضبًا حانقًا..
بعد سنوات نعرف أنها صادقة في نواياها، شديدة الإصرار على القيام بما تعتقد أنه
يهمها، وتبقى أمينة لخطابها المدرسي. وحين تموت كمواطنة أمريكية على أرض غزة لا
تقوم الدنيا ولا تقعد في واشنطن! لا يأتي أحد من السفارة الأمريكية في تل أبيب
ليكون شاهدًا على تشريح جثتها حسب اشتراط والديها، لا أحد يستنكر، ليس من مسئول
أمريكي يطالب بتحقيق في القضية.. لا يحدث شيء من هذا، فمن الواضح أن الولايات
المتحدة قد تخلت عن مواطنيها الأمريكيين الذين يتعاطفون مع الشعوب المقهورة.. على
الأمريكي أن يبقى في أرض الهنود الحمر، يدفع الضرائب ليحل العدل في العالم!
شهادات محتلة
في الفيلم شهادات إسرائيلية أضافت مزيدًا من التوضيح حول ملابسات قتل ريتشل كوري.
فيلم آخر أخرجه الفلسطيني يحيى بركات تحت اسم: "ريتشل، ضمير أمريكي" يقدّم فيه من
الزاوية الفلسطينية ومن زاوية رفاقها تفاصيل الاتهام ضدّ الجرّافة، لكنّ الجديد في
فيلم بيطون إيراد عدة شهادات من جانب الاحتلال الإسرائيلي؛ شهادة المتحدثة باسم
الجيش، شهادة المحقق العسكري الذي قام بالتحقيق مع الجنود بعد الحادثة.. وشهادة
جندي يعترف باختلاط الحرب وألعاب الحاسوب عليه. هذه الشهادات، رغم أهميتها لم تساعد
في تحديد المتسبب في الموت؛ هل هو قتل متعمد قام به سائق الجرّافة وقد سئم هؤلاء
الغرباء؟! أم أنه حادث عرضي.. قضاء وقدر؟ يقول السائق أنه لم يستطيع رؤية ريتشل
لحظة الحادث، فالجرّافة لا تسمح بذلك بسبب محدودية الرؤية من نوافذها الضيقة..
وكأنه يقول أن الجرافة هي من قتل ريتشل وليس هو!
في الحوار بعد انتهاء عرض الفيلم تُعلن بيطون أنها لا تهتم حقا كيف قتلت ريتشل، فقد
تعدّدت الأسباب والجيش واحد.. بل تهتم أكثر بسرد الحكاية، ربما لأنه لم تعد هناك
أيّة إثارة "إكشن" حقيقي في توجيه التهم إلى إسرائيل، فقد أصبح هذا أمرًا يوميًا
وعاديًا، إنها دولة جرائم حرب، كلنا نعرف هذا.. لكنّ مُشاهدًا حيّا يرزق وجّه
أسئلته من مكانه في الصالة عبر كلمات مفكّكة: الولايات المتحدة هي المسؤولة
الحقيقية عن موت ريتشل.. دولتنا غير مسؤولة عن ذلك.. فلتبحثوا عن الأسباب هناك..
دون محاكمة
المحقق العسكري، الشاهد الأهم في الفيلم كان حاضرًا في القاعة، التزم الصمت خلال
الحوار، ولم يستجب لدعوة بيطون بالرد على صاحب الأسئلة المفكّكة، ثلاث نساء ذوات
ميول يسارية واضحة بادروا إلى طرح أسئلة سهلة على بيطون، القاعة بدأت تفرغ من
المعزيّن بوفاة الأمريكية، فقد أدّوا واجبهم.. مهرجان حيفا الدولي للأفلام قام
أيضًا بتأدية واجبه بمجرد عرضه للفيلم، بل وزاد على هذا بأن استضاف مخرجته التي
اختارت طوعًا التنازل عن الإقامة في إسرائيل، واختارت طوعًا أن لا تجيب عن أسئلة
الفيلم: من قتل ريتشل كوري؟ ولماذا لم يحاكم أحد؟
الجواب بسيط للغاية.. لن يحاكم أحد في إسرائيل بسبب قتل ريتشل كوري، ولن يُحاكم أحد
بجريمة قتل آلاف الفلسطينيين، ولن يقوم ألف مخرج بصناعة ألف فيلم عن كل فلسطيني قتل
سهوًا أو خطأ أو عن غير قصد، وستبقى محاكمة إسرائيل ومقاطعتها دوليًا عرضة للمساومة..
وللمصادفة، أكتب عن فيلم "ريتشل" في وقت تثار فيه الضجة حول فضيحة تراجع السلطة
الفلسطينية عن حقها بمحاسبة إسرائيل دوليًا، جرّاء ارتكابها جرائم حرب في غزة..
فليسجّل التاريخ!
تسجيل لريتشل كوري في عمر 10 سنوات